التّفسير
حكومة داود وسُليمان( عليهما السلام ):
بعد الكلام عن جانب من قصّة موسى( عليه السلام ) في هذه السورة ،يجري الكلام عن نبيّين آخرين من الأنبياء العظام ،وهما «داود » و«سليمان » ...والكلام على داودلا يتجاوز الإشارة العابرة ،إلاّ أنّ الكلام على سليمان أكثر استيعاباً .
وذكر هذا المقطع من قصّة هذين النبيّين بعد قصّة موسى( عليه السلام ) ،لأنّهما كانا من أنبياء بني إسرائيل أيضاً ،وما نجده من اختلاف بين تأريخهما وتاريخ الأنبياء الآخرين ،هو أنّهماونتيجة للاستعداد الفكري وملائمة المحيط الاجتماعي في عهدهماقد وفّقا إلى تأسيس حكومة عظيمة ،وأن ينشرا بالاستعانة والإفادة من حكومتهما دين الله ،لذلك لا نجد هنا أثراً أو خبراً عمّا عهدناه من أسلوب في تلك الآيات التي كانت تتكلم عن الأنبياء الآخرين ،وهم يواجهون قومهم المعاندين ،وربّما نالوا منهم الأذى والطرد والإخراج من مدنهم وقراهم ..فالتعابير هنا تختلف عن تلكم التعابير تماماً .
ويدلّ هذا بوضوح أنّه لو كان المصلحون والدعاة إلى الله يوفقون إلى تشكيل حكومة لما بقيت معضلة ولغدى طريقهم معبداً سالكاً .
وعلى كل حال ،فالكلام هنا عن العلم والقدرة والعظمة ،وعن طاعة الآخرين حتى الجن والشياطين لحكومة الله وعن تسليم الطير في الهواء والموجودات الأخر لحكومة الله !.
وأخيراً ،فإنّ الكلام عن مكافحة عبادة الأصنام عن طريق الدعوة المنطقية ،ثمّ الإفادة من قدرة الحكومة !.
وهذه الأُمور هي التي ميّزت قصّة هذين النبيّين عن الأنبياء الآخرين .
الطريف ،أن القرآن يبدأ من مسألة «موهبة العلم » التي هي أساس الحكومة الصالحة القوية ،فيقول: ( ولقد آتينا داود وسليمان علماً ) .
وبالرغم من أن كثيراً من المفسّرين أجهدوا أنفسهم وأتعبوها ليعرفوا هذا العلم الذي أوتيه سليمانُ وداودُ ،لأنّه جاء في الآية بصورة مغلقة ..فقال بعضهم: هو علم القضاء ،بقرينة الآية ( 20 ) من سورة ص: ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) والآية ( 79 ) من سورة الأنبياء ( وكلا آتينا حكماً وعلماً ) .
وقال بعضهم: إن هذا العلم هو معرفة منطق الطير بقرينة الآية ( عُلمنا منطق الطير ) .
وقال بعضهم: «إن المراد من هذا العلم هو صنعة الدروع ،بقرينة ( صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ) .
إلاّ أن من الواضح أن العلم هنا له مفهوم واسع ،بحيث يحمل في نفسه علم التوحيد والاعتقادات المذهبية والقوانين الدينية ،وكذلك علم القضاء ،وجميع العلوم التي ينبغي توفرها لمثل هذه الحكومة الواسعة القوية ...لأنّ تأسيس حكومة إلهية على أساس العدل ...وحضارة عامرة حرّة ...دون الإفادة من علم واسع غير ممكن ...وهكذا فإنّ القرآن يعدُّ مقام العلم لتشكيل حكومة صالحة أوّل حجر أساس لها !.
وبعد هذه الجملة ينقل القرآن ما قاله داود وسليمان من ثناء لله: ( وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) .
والذي يجلب النظر هو أنّه بعد بيان هذه الموهبة الكبيرة «العلم » يجري الكلام عن «الشكر » مباشرة ...ليكون واضحاً أنّ كل نعمة لابدّ لها من شكر ،وحقيقة الشكر هو أنّ يستفاد من النعمة في طريقها الذي خلقت من أجله .
وهذان النبيّان العظيمان( عليهما السلام ) استفادا من نعمة علمهما الاستفادة القصوى في تنظيم حكومة إلهية .
وقد جعل داود وسليمان معيار تفضيلهما على الآخرين «العلم » لا القدرةولا الحكومة ،وعدّا الشكر للعلم لا لغيره من المواهب ،لأنّ كلّ قيمة هي من أجل العلم ،وكلّ قدرة تعتمد أساسا على العلم .
والجدير بالذكر أنّهما يشكران اللّه ويحمدانه لتفضيلهما ولحكومتهما على اُمّة مؤمنة ..لأنّ الحكومة على اُمّة فاسدة غير مؤمنة ليست مدعاة للفخر !
وهنا ينقدح هذا السؤال ،وهو: لم قال داود وسليمان ( الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) ولم يقولا على عباده المؤمنين جميعاً ،مع أنّهما كانا نبيّين ،وهما أفضل أهل عصرهما ؟
ولعلّ هذا التعبير رعاية لأصول الأدب والتواضع ،إذ على الإنسان أنلا يرى نفسه أفضل من الجميع في أي مقام كان !
أو لأنّهما كانا ينظران إلى جميع الأزمنة ،ولم ينظرا إلى مقطع زمنىّ خاص ،ونعرف أن على مدى التأريخ يوجد أنبياء كانوا أفضل منهما .
/خ16