والآية التالية تتكلم على إرث سليمان أباه داود أولا ،فتقول: ( وورث سليمانُ داود ) .
وهناك كلام بين المفسّرين في المراد من الإرث هنا ،ما هو ؟
فقال بعضهم: هو ميراث العلم فحسب ...لأنّ في تصورهم أنّ الأنبياءلايورثون .
وقال بعضهم: هو ميراث المال والحكومة ،لأنّ هذا المفهوم يتداعى إلى الذهن قبل أي مفهوم آخر .
وقال بعضهم: هو منطق الطير .
ولكن مع الالتفات إلى أنّ الآية مطلقة ،وقد جاء في الجمل التالية الكلام على العلم وعن جميع المواهب ( أوتينا من كل شيء ) فلا دليل على حصر مفهوم الآية وجعله محدوداً ،فبناءً على ذلك فإنّ سليمان ورث كل شيء عن أبيه .
وفي الرّوايات الواردة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) أنّهم كانوا يستدلون بهذه الآية على عدم صحة ما نسب إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة » وأنّه ساقط من الاعتبار لمخالفته كتاب الله .
وفي بعض الأحاديث عن أهل البيت أنّه لما أجمع أبو بكر على أخذ فدك من فاطمة( عليها السلام ) ،محتجّاً بالحديث آنف الذكر ،جاءته فاطمة( عليها السلام ) فقالت: ( يا أبا بكر ،أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟!لقد جئت شيئاً فريّاً ،فعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ،إذ يقول: ( وورث سليمان داود ){[2983]} .
ثمّ تضيف الآية حَاكيةً عن لسان سليمان ( وقال يا أيّها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ) .
وبالرغم من ادعاء بعضهم أن تعبير النطق والكلام في شأن غير الناس لا يمكن إلاّ على نحو المجاز ..إلاّ أنّه إذا أظهر غير الإنسان أصواتاً من فمه كاشفاً عن مطلب ما ،فلا دليل على عدم تسميته نطقاً ،لأنّ النطق كل لفظ مبين للحقيقة والمفهوم{[2984]} .
ولا نريد أنّ نقول أنّ ما يظهر من أصوات الحيوانات عند الغضب أو الرضا أو الألم أو إظهار الشوق لأطفالها هو نطق ،كلاّ فهي أصوات تقترن بحالات الحيوان ...إلاّ أنّناكما سيأتي في الآيات التاليةسنرى بتفصيل أن سليمان تكلم مع الهدهد في مسائل وحمّله رسالة ...وطلب منه أن يتحرّى جوابها .
وهذا الأمر يدلّ على أن الحيوانات بالإضافة إلى أصواتها الكاشفة عن حالاتها الخاصة ...لها القدرة على النطق في ظروف خاصة بأمر الله ،كما سيأتي الكلام في شأن تكلم النمل في الآيات المقبلة إن شاء الله .
وبالطبع فإن النطق استعمل في القرآن بمعناه الوسيع ، حيث يبيّن حقيقة النطق ونتيجته ،وهو بيان ما في الضمير ،سواءً كان ذلك عن طريق الألفاظ أو عن طريق الحالات الأخر ،كما في قوله تعالى: ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق{[2985]} إلاّ أنّهلا حاجة إلى تفسير كلام سليمان ومنطق الطير بهذا المعنى ...بل طبقاً لظاهر الآيات فإن سليمان كان بإمكانه أن يعرف ألفاظ الطير الخاصة الدالة على مسائل معيّنة فيشخّصها ،أو أنّه كان يتكلم معها فعلا ..
وسنتكلم في هذا الشأن في البحوث إن شاء الله تعالى .
أمّا جملة ( أُوتينا من كل شيء ) فهي على خلاف ما حدده جماعة من المفسّرين ،لها مفهوم واسع شامل ..فهي تشمل جميع الأسباب اللازمة لإقامة حكومة الله في ذلك الحين ..وأساساً فإن الكلام سيقع ناقصاً بدونها ،ولا يكون له ارتباط واضح بما سبق .
وهنا يثير الفخر الرازي سؤالا فيقول: أليس التعبير ب ( علمنا ) و ( أوتينا ) من قبيل كلام المتكبرين ؟!
ثمّ يجيب على سؤاله هذا بالقول: إن المراد من ضمير الجمع هنا هو سليمان وأبوه ،أو هو و معاونوه في الحكومة ..وهذا التعبير مستعمل حين يكون الشخص في رأس هيئة ما ،أن يتكلم عن نفسه بضمير الجمع !.
/خ16