وطبيعيٌ أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عدة ساعات فإنه يجوع ويبكيولا يطيق تحمل الجوع ،فيجب البحث عن مرضع له ،ولاسيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون » تعلق قلبها به بشدّة ،وأحبّته كروحها العزيزة .
كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثاً عن مرضع له ،والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات .
لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ،أو أنّه لم يكن يتذوق ألبانهن ،إذ يبدو لبن كلٍّ منهن مرّاً في فمه ،فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ،وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعإلى إذ حرّم عليه المراضع جميعاً .
ولم يزل الطفل لحظة بعد أُخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثاً عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاءً وضجيجاً ،ومازال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتاً أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ،فقالت: ( هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ) .
إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبناً ،وقلب طافح بالمحبّة ،وقد فقدت وليدها ،وهي مستعدةً أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها .
فسرّ بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ،فلمّا شمّ الطفل رائحة أُمّه التقم ثديها بشغف كبير ،وأشرقت عيناه سروراً ،كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ،وامرأة فرعون هي الأُخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضاً .
ولعلهم قالوا للمرضع: أين كنت حتى الآن ،إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّةً ..فليتك جئت قبل الآن ،فمرحباً بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة .
تقول بعض الرّوايات: حين استقبل موسى ثدي أُمّه ،قال هامان وزير فرعون لأم موسى: لعلك أُمّه الحقيقية ،إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ،فقالت: أيّها الملك ،لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ،لم يأتي طفل رضيع إلاّ قبل بي ،فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة{[3040]} .
ونقرأ في هذا الصدد حديثاً قال الراوي: فقلت للإمام الباقر( عليه السلام )؛فكم مكث موسى غائباً من أُمّه حتى ردّه الله ؟قال «ثلاثة أيّام »{[3041]} .
وقال بعضهم: هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام ..الملوّثة بأموال السرقة ،أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ،وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أُمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين .