من علائم الإيمان:
( لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون ) .
ولفظة «البر » في أصلها اللغوي تعني «السعة » ولهذا يقال للصحراء «البَر » بفتح الباء ،ولهذه الجهة أيضاً يقال للأعمال الصالحة ذات الآثار الواسعة التي تعم الآخرين وتشملهم «البِر » بكسر الباء ،والفرق بين البر والخير من حيث اللغة هو أن البر يراد منه النفع الواصل إلى الآخرين مع القصد إلى ذلك ،بينما يطلق الخير على ما وصل نفعه إلى الآخرين حتّى لو وقع عن سهو غير قصد .
ماذا يعني «البر » في الآية ؟
لقد ذهب المفسّرون في تفسير «البر » في هذه الآية إلى مذاهب شتى .
فمنهم من قال: إن المراد به هو «الجنة » ،
ومنهم من قال إن المراد هو «الطاعة والتقوى »
ومنهم من فسّره بأن معناه «الأجر الجميل » .
غير أن المستفاد من موارد استعمال هذه اللفظة في آيات الكتاب العزيز نفسه هو: أن لكلمة «البر » معنى واسعاً يشمل كلّ أنواع الخير إيماناً كان أو أعمالاً صالحة ،كما أن المستفاد من الآية 177 من سورة البقرة هو اعتبار «الإيمان بالله واليوم الآخر ،والأنبياء ،وإعانة المحتاجين ،والصلاة ،والصيام ،والوفاء ،والاستقامة في البأساء والضراء » جميعها من شعب البر ومصاديقه .
وعلى هذا فإن للوصول إلى مراتب الأبرار الحقيقيين شروطاً عديدة ،منها: الإنفاق ممّا يحبه الإنسان من الأموال ،لأن الحبّ الواقعي لله ،والتعلّق بالقيم الأخلاقية والإنسانية إنما يتضح ويثبت إذا انتهى المرء إلى مفترق طريقين ،وواجه خيارين لا ثالث لهما ،ويقع في أحد الجانبين الثروة ،أو المنصب ،والمكانة المحببة لديه ،وفي الجانب الآخر رضا الله والحقيقة والعواطف الإنسانية وفعل الخير ،ويتعين عليه أن يختار أحدهما ويضحي بالآخر ،ويتغاضى عنه .
فإذا غض نظره عن الأول لحساب الثاني أثبت صدق نيته ،وبرهن على حبه ،وعلى واقعيته في ولائه وانتمائه .
وإذا اقتصرفي هذا السبيلعلى إنفاق الحقير القليل ،وبذل ما لا يحبه ويهواه ،فإنه يكون بذلك قد برهن على قصوره في الإيمان والمحبة ،والتعلّق المعنوي عن تلك المرتبة السامية ،وأنه ليس إلاّ بنفس الدرجة التي أظهرها في سلوكه وعطائه لا أكثر ،وهذا هو المقياس الطبيعي والمنطقي لتقييم الشخصية ،ومعرفة مستوى الإيمان لدى الإنسان ،ومدى تجذره في ضميره .
تأثير القرآن في قلوب المسلمين:
لقد كان لآيات الكتاب العزيز تأثير بالغ ونفوذ سريع في أفئدة المسلمين الأوائل ،فما إن سمعوا آيات جديدة النزول ،إلاّ وظهر هذا التأثير على سلوكهم ومواقفهم وتصرفاتهم ،ونذكر من باب المثال ما نقرأه في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي ممّا ورد في مجال هذه الآية بالذات .
1كان «أبو طلحة » أكثر أنصاري المدينة نخلاً ،وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ،وكانت مستقبلة المسجد ،وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ،فلما أنزلت ( لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون ) قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله يقول: لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ،وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله ،فضعها يا رسول الله حيث أراك الله .قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): بخ بخ ذلك مال رابح لك وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين .قال أبو طلحة: افعل يا رسول الله ،فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه{[611]} .
2أضاف أبو ذر الغفاري ضيفاً ،فقال للضيف: إني مشغول ،وإن لي إبلاً فاخرج وآتني بخيرها ،فذهب فجاء بناقة مهزولة ،فقال أبو ذر: خنتني بهذه ،فقال: وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه ،فقال أبو ذر: إن يوم حاجتي إليه يوم أوضع في حفرتي ،مع أن الله يقول:
( لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون ){[612]} .
3كان لزبيدة زوجة هارون الرشيد مصحف ثمين جدّاً ،قد زينت غلافه بأغلى أنواع المجوهرات والأحجار الكريمة وكانت تحبه حباً شديداً وتعتز به أكبر اعتزاز ،وفيما هي تتلو القرآن في ذلك المصحف ذات يوم وإذا بها مرت على قوله تعالى: ( لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون ) فتأملت فيه ،وغاصت في معناه وتأثرت بندائه فقالت في نفسها: «إنه ليس هناك ما هو أحب إلي من هذا المصحف المزين الثمين فلأنفقه في سبيل الله » ،فأرسلت إلى باعة الجواهر وباعت جواهره وأحجاره الكريمة عليهم ثمّ هيأت بثمنها آباراً وقنوات من الماء في صحراء الحجاز ليشرب منه سكان الصحراء وينتفع به المسافرون ،ويقال إن بقايا هذه الآبار لا تزال باقية وتدعى{[613]}باسمها عند الناس .
وحتّى يطمئن المنفقون إلى أن أي شيء ممّا ينفقونه لن يعزب عن الله سبحانه ولن يضيع ،عقب الله على حثه للناس على الإنفاق ممّا يحبون بقوله: ( وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ) إنه يعلم بما تنفقونه صغيراً أم كبيراً ،تحبونه أو لا تحبونه .
سبب النّزول
المستفاد من الروايات الواردة حول هذه الآيات وما ينقله المفسّرون هو: أن اليهود طرحوا إشكالين آخرين على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ضمن جدالهم له ،أحدهما: تحليله لحوم الإبل وألبانها ،وقد كانت حراماً في دين إبراهيم ( عليه السلام ) وكانوا يقولون: كلّ شيء نحرمه فهو كان محرماً على نوح وإبراهيم ،فكيف تحلله وأنت تدعي متابعة إبراهيم وإنك على ملته ودينه ؟
والآخر: صلاته باتجاه الكعبة فكانوا يقولون: كيف تدعي يا محمّد الاقتداء بملّة إبراهيم ( عليه السلام ) والنبيين العظام ،وقد كان جميع الأنبياء من ولد إسحاق يولون وجوههم شطر «بيت المقدس » ويصلون باتجاهه وأنت تصلي شطر الكعبة وتعرض عن «بيت المقدس » ؟
فجاءت الآيات الثلاثة تردّ على إنكارهم للأمر الأول وتفند زعمهم ،بينما تكفلت الآيات القادمة الردّ على اعتراضهم الأخير .