/م14
إنّ الوصيّة بالإحسان إلى الأبوين قد توجد الاشتباه والوهم عند البعض وذلك حينما يظنّ أنّه يجب مداراتهما واتّباعهما حتّى في مسألة العقيدة والكفر والإيمان ،لكنّ الآية التالية تقول: ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ) فيجب أن لا تكون علاقة الإنسان بأمه وأبيه مقدّمة على علاقته بالله مطلقاً ،وأن لا تكون عواطف القرابة حاكمة على عقيدته الدينيّة أبداً .
جملة ( جاهداك ) إشارة إلى أنّ الأبوين قد يظنّان أحياناً أنّهما يريدان سعادة الولد ،ويسعيان إلى جرّه إلى عقيدتهما المنحرفة والإيمان بها ،وهذا يلاحظ لدى كلّ الآباء والاُمّهات .
إنّ واجب الأولاد أن لا يستسلموا أبداً أمام هذه الضغوط ،ويجب أن يحافظوا على استقلالهم الفكري ،ولا يساوموا على عقيدة التوحيد ،أو يبدّلوها بأيّ شيء .
ثمّ إنّ جملة ( ما ليس لك به علم ) تشير ضمناً إلى أنّنا لو نتجاهل أدلّة بطلان الشرك ،ولم نقم لها وزناً ،فإنّه لا يوجد دليل على إثباته ،ولا يستطيع أيّ متعنّت إثبات الشرك بالدليل .
وإذا تجاوزنا ذلك ،فإنّ الشرك إن كانت له حقيقة ،فينبغي أن يكون هناك دليل على إثباته ،ولمّا لم يكن هناك دليل على إثباته ،فإنّ هذا بنفسه دليل على بطلانه .
ولمّا كان من الممكن أيضاً أن يوجد هذا الأمر توهّم وجوب استخدام الخشونة مع الوالدين المشركين وعدم احترامهما ،ولذلك أضافت الآية أنّ عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلا على وجوب قطع العلاقة معهما ،بل تأمره الآية أن
( وصاحبهما في الدنيا معروفاً ) .
فلاطفهما وأظهر المحبّة لهما في الحياة الدنيويّة والمعاشرة ،ولا تستسلم لأفكارهما واقتراحاتهما من الناحية العقائدية والبرامج الدينيّة ،وهذه بالضبط نقطة الاعتدال الأصليّة التي تجمع فيها حقوق الله والوالدين ،ولذا يضيف بعد ذلك ( واتّبع سبيل من أناب إليّ ) لأنّ المصير إليه سبحانه ( ثمّ إليّ مرجعكم فاُنبّئكم بما كنتم تعملون ) .
إنّ سبب النفي والإثبات المتلاحق ،والأوامر والنواهي المتتابعة في الآيات أعلاه هو أن يجد المسلمون الخطّ الأصلي ويشخّصوه في مثل هذه المسائل ،حيث يبدو في أوّل الأمر أنّ هناك تناقضاً في أداء هذين الواجبين ،فإن تفكّروا قليلا فإنّ المسير الصحيح سيكون نصب أعينهم ،وسيسيرون فيه دون أدنى إفراط ولا تفريط ،وهذه الدقّة واللطافة القرآنية في أمثال هذه الدقائق من صور فصاحة القرآن وبلاغته العميقة .
وعلى كلّ حال ،فإنّ الآية أعلاه تشبه ما جاء في الآية ( 8 ) من سورة العنكبوت ،حيث تقول: ( ووصّينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليّ مرجعكم فاُنبّئكم بما كنتم تعملون ) وقد أوردنا في ذيل الآية ( 8 ) من سورة العنكبوت سبب نزول لها ذُكر في بعض التفاسير .
/خ15