وتشير الآية التالية إلى مراحل تكامل الإنسان المعقّدة في عالم الرحم ،وكذلك المراحل التي طواها آدم عند خلقه من التراب ،فتقول: ( ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) .
«سوّاه » من التسوية ،أي الإكمال ،وهذه إشارة إلى مجموع المراحل التي يطويها الإنسان من حال كونه نطفة إلى المرحلة التي تتّضح فيها جميع أعضاء بدنه ،وكذلك المراحل التي طواها آدم بعد خلقه من التراب حتّى نفخ الروح{[3302]} .
والتعبير ب «النفخ » كناية عن حلول الروح في بدن الإنسان ،فكأنّه شبّه الحال بالهواء والتنفّس ،بالرغم من أنّه لا هذا ولا ذاك .
فإن قيل: إنّ نطفة الإنسان منذ استقرارها في الرحمبل وقبل ذلككانت كائناً حيّاً وعلى هذا فأيّ معنى لنفخ الروح ؟
قلنا في الجواب: إنّ النطفة عندما تنعقد في البداية ليس لها إلاّ نوعاً من «الحياة النباتية » ،أي التغذية والنمو فقط ،أمّا الحسّ والحركة التي هي علامة «الحياة الحيوانية » ،وكذلك قوّة الإدراكات التي هي علامة الحياة الإنسانية ،فلا أثر عن كلّ ذلك .
إنّ تكامل النطفة في الرحم تصل إلى مرحلة تبدأ عندها بالحركة ،وتحيا وتنبعث فيها القوى الإنسانية الاُخرى تدريجياً ،وهذه هي المرحلة التي يعبّر عنها القرآن بنفخ الروح .
أمّا إضافة «الروح » إلى «الله » فهي «إضافة تشريفية » ،أي إنّ روحاً ثمينة وشريفة بحيث أنّ من المناسب أن تسمّى «روح الله » قد دبّت في الإنسان ونفخت فيه ،وهذا يبيّن حقيقة أنّ الإنسان وإن كان من ناحية البعد المادّي يتكوّن من الطين والماء ،إلاّ أنّه من البعد المعنوي والروحي يحمل «روح الله » .
إنّ أحد طرفي وجوده ينتهي إلى التراب ،وطرفه الآخر يتّصل بعرش الله ،فإنّه خليط من الملائكة والحيوان ،ولوجود هذين البعدين فإنّ منحني صعوده ونزوله ،وتكامله وانحطاطه واسع جدّاً{[3303]} .
وأشار القرآن في آخر مرحلةوالتي تعتبر المرحلة الخامسة في خلق الإنسانإلى نعمة الاُذن والعين والقلب ،ومن الطبيعي أنّ المراد هنا ليس خلقة هذه الأعضاء ،لأنّ هذه الخلقة تتكوّن قبل نفخ الروح ،بل المراد حسّ السمع والبصر والإدراك والعقل .
والتأكيد على هذه الحواس الثلاث فقط من بين كلّ الحواس «الظاهرة » و «الباطنة » ،لأنّ أهمّ حسّ ظاهري يربط الإنسان بالعالم الخارجي رابطة قويّة هو السمع والبصر ،فالاُذن تدرك الأصوات ،وخاصّة أنّ التربية والتعليم يتمّ بواسطتها ،والعين وسيلة النظر إلى العالم الخارجي ومشاهدة مشاهد هذا العالم المختلفة ،وقوّة العقل أهمّ حسّ باطني لدى الإنسان ،وبتعبير آخر فإنّه حاكم على وجود البشر .
والجدير بالذكر أنّ «أفئدة » جمع «فؤاد » بمعنى «قلب » ولكن مفهومها أدقّ من القلب حين يقصد بها عادةً الحنكة والفطانة في الفرد ،وبهذا يبيّن الله تعالى في هذه الآية أهمّ وسائل المعرفة والإدراك الظاهرية والباطنية في الإنسان ،لأنّ العلوم والمعارف إمّا أن يحصل عليها الإنسان بواسطة «التجربة » فالوسيلة هي السمع والبصر ،أو عن طريق التحليل والاستدلال العقلي ،والوسيلة لذلك هو العقل والفؤاد كما ورد التعبير عنه في هذه الآية ،وحتّى الإدراك الحاصل من الوحي أو الإشراق والشهود القلبي يتمّ بواسطة هذه الوسيلة أيضاً ،أي «الأفئدة » .
ولو فقد الإنسان هذه الوسائل للمعرفة ،فسوف يخسر قيمته تماماً ويصبح مجرّد كميّة مهملة من المادّة والتراب ،ولهذا نجد الآية الشريفة محل البحث تؤكّد في ختامها على مسألة الشكر لهذه النعم العظيمة على الإنسان وتقول ( قليلا ما تشكرون ) وذلك إشارة إلى أنّ الإنسان مهما سعى في أداء شكر هذه النعم والمواهب العظيمة ،فمع ذلك لا يؤدّي حقّ الشكر .
/خ9