بعد الحديث عن خالقية الله سبحانه وتعالى ،ورسالة الملائكة الذين هم واسطة الفيض الإلهي ،تنتقل الآيات إلى الحديث عن رحمة الله سبحانه ،والتي هي الأساس لكلّ عالم الوجود ،تقول الآية الكريمة: ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ) .
الخلاصة أنّ تمام خزائن الرحمة عنده ،وهو يشمل بها كلّ من يراه أهلا لها ،ويفتح أبوابها حيثما اقتضت حكمته ،ولن يستطيع الناس بأجمعهم أن يغلقوا ما فتح ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ،أو أن يفتحوا باباً أغلقه سبحانه وتعالى ،وهذا المفهوم في الحقيقة فرع مهم من بحث التوحيد حيث يتفرّع عنه فروع اُخرى «تأمّل » .
وقد ورد شبيه هذا المعنى في الآيات القرآنية الاُخرى ،ففي الآية 107سورة يونس يقول تعالى: ( وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلاّ هو وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ) .
ملاحظات
1التعبير ب «يفتح »من مادّة «فتح »إشارة إلى وجود خزائن الرحمة الإلهية التي ورد ذكرها أيضاً في آيات اُخرى من القرآن الكريم ،والملفت للنظر أنّ هذه الخزائن بمجرّد فتحها تجري الرحمة على الخلائق بلا أدنى حاجة إلى شيء آخر ،وبدون أن يستطيع أحد منعها من ذلك .
وتقدّم مفهوم «فتح الرحمة » على «إمساكها » ،لأنّ رحمة الله تسبق غضبه دوماً .
2تعبير «الرحمة » له معنى واسع وشامل ،لكلّ المواهب الإلهيّة في الكون ،معنويةً وماديةً ،ولهذا السبب يحسّ المؤمن عندما توصد أمامه جميع الأبواب بأنّ الرحمة تنساب في قلبه وروحه ،فيكون مسروراً وقانعاً هادئاً ومطمئناً ،حتّى وإن كان مأسوراً في السجن .
وتارةً ينعكس الحال ،وذلك حينما تكون جميع الأبواب الظاهرية مفتوحة أمام الإنسان ،ومع ذلك يحسّ في أعماقه بالضيق والضغط ويرى الدنيا على سعتها سجناً مظلماً موحشاً ،لمجرد عدم انفتاح باب الرحمة الإلهية في أعماقه .وهذا أمر محسوس وملموس للجميع .
3استعمال صفتي «العزيز » و «الحكيم » لتوضيح قدرة الله سبحانه وتعالى على «إرسال » و «إمساك » الرحمة ،وفي عين الحال إشارة إلى أنّ الفتح والإغلاق في أيّ وقت شاء تعالى إنّما هو على أساس الحكمة ،لأنّ قدرة الباري وحكمته مقرونتان .
وعلى كلّ حال فإنّ الانتفاع من محتوى هذه الآية ،يمنح الإنسان المؤمن هدوءاً وسكينة ،ويجعله مقاوماً لكلّ أنواع الحوادث ،ولا يخاف من المشاكل ،ويبعده عن الغرور في حال النجاح والفوز .