بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين والمصدّقين بالإنذارات الإلهية التي جاء بها الأنبياء ،تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة ،تقول الآية الكريمة: ( إنّا نحن نحيي الموتى ) .
الاستناد إلى لفظة «نحن » إشارة إلى القدرة العظيمة التي تعرفونها فينا !وكذلك قطع الطريق أمام البحث والتساؤل في كيف يحيي العظام وهي رميم ،ويبعث الروح في الأبدان من جديد ؟وليس نحيي الموتى فقط ،بل ( ونكتب ما قدّموا وآثارهم ) وعليه فإنّ صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ وتحفظها إلى يوم الحساب .
جملة «ما قدّموا » إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر ،أمّا التعبير «وآثارهم » فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على المحيط الخارجي ،من أمثال الصدقات الجارية ( المباني والأوقاف والمراكز التي تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس ) .
كذلك يحتمل أيضاً أن يكون المعنى هو أنّ «ما قدّموا » إشارة إلى الأعمال ذات الجنبة الشخصية ،و «آثارهم » إشارة إلى الأعمال التي تصبح سنناً وتوجب الخير والبركات بعد موت الإنسان ،أو تؤدّي إلى الشرّ والمعاصي والذنوب .ومفهوم الآية واسع يمكن أن يشمل التّفسيرين .
ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد ( وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين ) .
أغلب المفسّرين اعتبروا أنّ معنى «إمام مبين » هنا هو «اللوح المحفوظ » ذلك الكتاب الذي أثبتت فيه وحفظت كلّ الأعمال والموجودات والحوادث التي في هذا العالم .
والتعبير ب «إمام » ربّما كان بلحاظ أنّ هذا الكتاب يكون في يوم القيامة قائداً وإماماً لجميع المأمورين بتحقيق الثواب والعقاب ،أو لكونه معياراً لتقييم الأعمال الإنسانية ومقدار ثوابها وعقوبتها .
الجدير بالملاحظة أنّ تعبير ( إمام ) ورد في بعض آيات القرآن الكريم للتعبير عن «التوراة » حيث يقول سبحانه وتعالى: ( أفمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ) .
وإطلاق كلمة «إمام » في هذه الآية على «التوراة » يشير إلى المعارف والأحكام والأوامر الواردة في التوراة ،وكذلك للدلائل والإشارات المذكورة بحقّ نبي الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ففي كلّ هذه الاُمور يمكن للتوراة أن تكون قائداً وإماماً للخلق ،وبناءً على ذلك فإنّ الكلمة المزبورة لها معنى متناسب مع مفهومها الأصلي في كلّ مورد استعمال .
/خ12