آخر آية في هذا البحث ،والتي هيفي الحقيقةمقدّمة للبحث المقبل ،تستثني مجموعة من العذاب ،وهي مجموعة عباد الله المخلصين ( إلاّ عباد الله المخلصين ){[3756]} .
وكلمة ( عباد الله ) يمكنها لوحدها أن تبيّن ارتباط هذه المجموعة بالله سبحانه وتعالى ،وعندما تضاف إليها كلمة ( مخلصين ) فإنّها تعطي لتلك الكلمة عمقاً وحياةً ،و «مخلَص » ( بفتح اللام ) جاءت بصيغة اسم مفعول ،وتعني الشخص الذي أخلصه الله سبحانه وتعالى لنفسه ،أخلصه من كلّ أشكال الشرك والرياء ومن وساوس الشياطين وهوى النفس .
نعم فهذه المجموعة لا تحاسب على أعمالها ،وإنّما يعاملها الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه ،ويمنحها من الثواب بغير حساب .
ملاحظة
الإمعان في آيات القرآن الكريم يبيّن أنّ كلمة ( مخلِص ) بكسر اللام ،قد استخدمت بكثرة في المواقع التي تتحدّث عن حالة الإنسان الذي يعيش مراحل بناء نفسه ،ولم يصل إلى التكامل ،أمّا كلمة ( مخلَص ) بفتح اللام ،فتطلق على مرحلة وصل فيها الإنسان إلى مرتبة يصان فيها من نفوذ وساوس الشيطان إلى قلبه ،بعد أن اجتاز مرحلة جهاد النفس ومراحل المعرفة والإيمان ،كما أنّ القرآن ينقل عن إبليس الخطاب التالي لله سبحانه وتعالى ( فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين ) .
هذه الآية تكرّرت عدّة مرّات في القرآن ،وهي توضّح عظمة مقام المخلصين ،مقام يوسف الصدّيق بعد أن عبر ساحة الاختبار الكبيرة بنجاح ،وأمثاله من المخلصين ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه من عبادنا المخلصين ) أي نحن أظهرنا البراهين ليوسف لنبعد عنه الفحشاء والسوء ،لأنّه من عبادنا المخلصين ( سورة يوسف24 ) .
فمقام المخلَصين لا يناله إلاّ من انتصر في الجهاد الأكبر ،وشمله اللطف الإلهي بإزالة كلّ شيء غير خالص من وجوده ،ولا تبقى فيه سوى النفس الطاهرة الخالصةكالذهب الخالصعند إذابتها في أفران الحوادث والاختبار .وهنا فإنّ مكافأتهم لا تتمّ وفق معيار أعمالهم ،وإنّما معيار مكافأتهم هو الفضل والرحمة الإلهيّة .
والعلاّمة الطباطبائي رحمة الله عليه يقول بهذا الشأن:
«يقول الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ،إنّ كافّة الناس يأخذون مكافأة أعمالهم إلاّ العباد المخلصين له ،لأنّهم يدركون بأنّهم عبيد الله ،والعبد هو الذيلا يملك لنفسه شيئاً من إرادة ولا عمل ،فهؤلاء لا يريدون إلاّ ما أراده الله ولا يعملون إلاّ له .ولكونهم من المخلصين ،فقد أخلصهم لنفسه ،ولا تعلّق لهم بشيء غير ذات الله تعالى .فقلوبهم خالية من حبّ الدنيا وزخارفها ،وليس فيها إلاّ الله سبحانه .
ومن المعلوم أنّ من كانت هذه صفته كان التذاذه وتنعّمه بغير ما يلتذّ ويتنعّم به غيره ،وارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه ،وإن شاركهم في ضروريات المأكل والمشرب ،ومن هنا يتأيّد أنّ المراد بقوله: ( اُولئك لهم رزق معلوم ) الإشارة إلى أنّ رزقهم في الجنّة رزق خاص لا يشبه غيره ،( وأنّهم يرزقون من مظاهر ذات الله الطاهرة ،وقلوبهم متعطّشة اشتياقا لله ،وغارقة في العشق والوصول إلى الله ){[3757]} .