التّفسير:
الامتحان الصعب لسليمان وملكه الواسع:
هذه الآيات تتحدّث عن أحداث أخرى من قصّة سليمان ،وتبيّن أنّ الإنسان مهما امتلك من قوّة وقدرة ،فإنّها ليست منه ،بل إنّ كلّ ما عنده هو من الله سبحانه وتعالى ،هذا الموضوع يزيل حجب الغرور والغفلة عن عين الإنسان ،ويجعله يشعر بصغر حجمه قياساً إلى هذا الكون .
القسم الأوّل من الآيات يتطرّق إلى أحد الامتحانات التي امتحن الله بها عبده سليمان ،الامتحان في ترك العمل بالأولى ،وكيف توجّه بعدها سليمان بقلب خاشع إلى الله سبحانه وتعالى طالباً منه العفو والتوبة لتركه العمل بالأولى .
إيجاز محتوى الآيات ،سمح مرّة أخرى لناسجي قصص الخيال أن ينسجوا قصصاً خيالية وهمية أخرى ،ويلصقوا التّهم بهذا النّبي الكبير ما لا يليق بالنبوّة ،ويتنافى مع مقام العصمة ،ويتنافى أساساً مع المنطق والعقل ،وهذا بحدّ ذاته امتحان للمحقّقين في علوم القرآن ،فلو أنّنا اكتفينا بما تطرحه آيات القرآن لما بقيت ثغرة لنفوذ الخرافات والأباطيل .
الآية الاُولى في بحثنا هذا تقول: ( ولقد فتنّا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثمّ أناب ) .
«الكرسي » يعني الأريكة ذات الأرجل القصيرة ،ويبدو أنّه كان للسلاطين نوعان من الكراسي ،الأوّل: له أرجل قصيرة يستخدم في الأوقات العادية ،والثاني: له أرجل أطول يستخدمها السلاطين في اجتماعاتهم الرسمية ،ويطلق على الأوّل اسم ( كرسي ) وعلى الثاني اسم ( عرش ) .
«الجسد » يعني الجسم الذي لا روح فيه ،وكما يقول الراغب في مفرداته: إنّ لها مفهوماً أكثر محدودية من مفهوم الجسم ،لأنّ كلمة الجسد لا تطلق على غير الإنسان إلاّ نادراً ،ولكن كلمة الجسم لها طابع عام .
يستفاد من هذه الآيات بصورة عامّة أنّ موضوع امتحان سليمان كان بواسطة جسد خال من الروح اُلقي على كرسيّه وأمام عينيه ،أمر لم يكن يتوقّعه ،وآماله كانت متعلّقة بشيء آخر ،والقرآن لا يعطي تفصيلات أخرى في هذا المجال .
وقد أورد المفسّرون والمحدّثون تفسيرات متعدّدة في هذا المجال ،أفضلها وأوضحها ما يلي:
إنّ سليمان ( عليه السلام ) كان متزوجاً من عدّة نساء ،وكان يأمل أن يُرزق بأولاد صالحين شجعان ليساعدوه في إدارة شؤون البلاد وجهاد الأعداء ،فحدّث نفسه يوماً قائلا: لأطوفنّ على نسائي كي اُرزق بعدد من الأولاد لعلّهم يساعدونني في تحقيق أهدافي ،ولكونه غفل عن قول ( إن شاء الله ) بعد تمام حديثه مع نفسه ،تلك العبارة التي تبيّن توكّل الإنسان على الله سبحانه وتعالى في كلّ الاُمور والأحوال ،فلم يرزق سوى ولد ميّت ناقص الخلقة جيء به واُلقي على كرسي سليمان ( عليه السلام ) .
سليمان ( عليه السلام ) غرقهنافي تفكير عميق ،وتألّم لكونه غفل عن الله لحظة واحدة واعتمد على قواه الذاتية ،فتاب إلى الله وعاد إليه .
وهناك تفسير آخر يمكن طرحه بعد التّفسير الأوّل وهو: إنّ الله سبحانه وتعالى امتحن سليمان بمرض شديد ،بحيث طرحه على كرسيه كجسد بلا روح من شدّة المرض ،وعبارة ( جسد بلا روح ) مألوفة ودارجة في اللغة العربية إذ تطلق على الإنسان الضعيف والعليل .
وفي نهاية الأمر تاب سليمان إلى الله ،وأعاد الله إليه صحّته ،وعاد كما كان قبل مرضه ( والمراد من ( أناب ) هنا عودة الصحّة والعافية إليه ) .
بالطبع هناك إشكال ورد على هذا التّفسير إذ أنّ عبارة ( ألقينا ) كان يجب أن تأتي بصورة ( ألقيناه ) حتّى تتناسب مع التّفسير المذكور أعلاه ،يعني أنّا ألقينا سليمان على كرسيّه جسداً بلا روح ،في حين أنّ هذه العبارة لم ترد في الآية بتلك الصورة ،وتقديرها مخالف للظاهر .
عبارة ( أناب ) في هذا التّفسير جاءت بمعنى عودة الصحّة والعافية إليه ،وهذا أيضاً مخالف للظاهر ،أمّا إذا اعتبرنا أنّ معنى ( أناب ) هو التوبة والعودة إلى الله ،فإنّها لا تلحق أي ضرر بالتّفسير ،ولهذا فإنّ الشيء الوحيد المخالف لظاهر الآيةهناهو حذف ضمير عبارة ( ألقيناه ) .
القصص الكاذبة والقبيحة التي تحدّثت عن فقدان خاتم سليمان ،وعثور أحد الشياطين عليه ،وجلوس ذلك الشيطان على عرش سليمان ،كما ورد في بعض الكتب التي لا يستبعد أن يكون مصدرها هو كتاب ( التلمود ) اليهودي المليء بالخرافات الإسرائيلية بما لا يتناسب مع العقل والمنطق .
وهذه القصصفي حقيقة الأمردليل انحطاط أفكار مبتدعيها ،ولهذا فإنّ المحقّقين المسلمين أينما ذكروها أعلنوا بصراحة زيفها وكونها مجرّد إختلاقات ،وقالوا: إنّ مقام النبوّة والحكومة الإلهية غير مرتبط بالخاتم ،ولم يستردّ الباري عزّ وجلّ النبوّة من أحد أنبيائه بعد أن بعثه بها ،حتّى يبعث الشيطان بصورة نبي ليجلس مكان سليمان ( 40 ) يوماً يحكم فيها بين الناس ويقضي بينهم .