ثمّ يتطرق القرآن إلى بيان ثلاث صفات أُخرى لهذا الكتاب السماوي ،فيقول: ( وإنّه في أُم الكتاب لدينا لعلي حكيم )ويشير في الصفة الأُولى إلى أن القرآن الكريم قد حُفظ وأُثبت في أُمّ الكتاب لدى الله سبحانه ،كما نقرأ ذلك أيضاً في الآية ( 22 ) من سورة البروج: ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) .
والآن ،لنر ما هو المراد من «أم الكتاب » ،أو «اللوح المحفوظ » ؟
«الأُم» في اللغة تعني أصل كل شيء وأساسه ،وإنّما يقول العرب للأم أمّاً لأنّها أساس العائلة ومأوى الأولاد ،وعلى هذا فإنّ ( أم الكتاب ) يعني الكتاب الذي يكون أساساً لكل الكتب السماويّة ،وهو ذلك اللوح المحفوظ لدى الله سبحانه ،والمصون من كل تغيير وتبديل وتحريف ..إنّه كتاب علم الله المحفوظ لديه ،والذي أُدرجت فيه كل حقائق العالم ،وكل حوادث الماضي والمستقبل ،وكل الكتب السماويّة ،ولا يستطيع أي أحد أن يصل إليه ويعلم ما فيه ،إلاّ إذا أراد الله سبحانه أن يُعلم أحداً بالمقدار الذي يريده عز وجل .
وهذا وصف عظيم للقرآن الذي ينبع من علم الله اللامتناهي ،وأصله وأساسه لديه سبحانه ،ولهذا يقول في الصفة الثّانية: ( لَعَلِيّ ) وفي الثالثة ( حكيم ) .
إنّ الشيء الذي ينبعث من علم الله اللامتناهي يجب أن يكون بهذه الصفات .
واعتقد البعض أنّ سموّ القرآن وعلوَّ مقامه نابع من أنّه فاق كلّ الكتب السماويّة ،ونسخها جميعاً ،وهو في أرفع مراتب الإعجاز .
واعتبر البعض الآخر علوّ القرآن لاحتوائه على حقائق لا تدركها أفكار البشر ،وهي بعيدة عن مدى ما تستوعبه عقولهمإضافة إلى الحقائق التي يفهمها الجميع من ظاهر القرآن .
ولا تتضارب هذه المعاني فيما بينها حيث تجتمع كلّها في مفهوم ( عَلِيّ ) .
وهنا مسألة تستحق الانتباه ،وهي أنّ ( الحكيم ) صفة للشخص عادة ،لا الكتاب ،لكن لمّا كان هذا الكتاب السماوي بنفسه معلماً عظيماً وناطقاً بالحكمة ناشراً لها ،فإنّ هذا التعبير في محله تماماً .
وقد وردت كلمة «الحكيم » بمعنى المستحكم الحصين أيضاً ،وكلّ هذه المعاني جمعت في اللفظة المذكورة ،وهي صادقة في شأن القرآن الكريم ،لأنّه حكيم بكل هذه المعاني .