التّفسير
العداء الأبدي:
لقد تناولت الآية السابقة ظاهرة نقض بني إِسرائيل للعهد الذي أخذه الله منهم ،أمّا الآية الأخيرةهذهفهي تتحدث عن نقض العهد عند النصارى الذين نسوا قسماً من أوامر الله التي كلّفوا بهافتقول الآية في هذا المجال: ( ومن الذين قالوا إِنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظّاً ممّا ذكروا به ) فهذه الآية تدل بوضوح على أنّ النصارىأيضاًكانوا قد عقدوا مع الله عهداً على أن لا ينحرفوا عن حقيقة التوحيد ،وأن لا ينسوا أوامر وأحكام الله ،وأن لا يكتموا علائم خاتم النّبيين( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،لكنّهم تورطوا بنفس ما تورط به اليهود مع فارق واحد ،وهو أنّ القرآن الكريم يصرّح بالنسبة لليهود بأنّ القليل منهم كانوا من الصالحين ،بينما يذكر القرآن بأنّ مجموعة من النصارى اختارت طريق الانحراف ،حيث يفهم من هذه التعبير أنّ المنحرفين من اليهود كانوا أكثر من المنحرفين من النصارى .
إِنّ تاريخ تدوين الأناجيل المتداولة يدل على أنّها كتبت بعد المسيح( عليه السلام )بسنين طويلة وبأيدي بعض المسيحيين ،وهذا هو دليل وجود الكثير من التناقض الصريح فيها ،ويدلنا هذاأيضاًعلى أنّ كتبة الأناجيل قد نسوابصورة تامّةأجزاء غير قليلة من الإِنجيل الأصلي ،ووجود خرافات في الأناجيل المتداولة من قبيل قصة صنع المسيح( عليه السلام ) للخمرة{[1006]} الأمر الذي يرفضه العقل ويتنافى حتى مع بعض آيات التوراة والإِنجيل المتداولين ،وكذلك قصّة مريم المجدلية{[1007]} وغيرها من القصص ،كلها دليل على ذلك التناقض .
أمّا كلمة «نصارى » التي وردت في الآية فهي صيغة جمع نصراني ،فقد وردت تفاسير مختلفة حولها ،ومنها أن المسيح قد تربى في صباه ببلدة الناصرة ،وقيلأيضاًأنّ هذه الكلمة هي نسبة إلى نصران ،وهي قرية يوليها المسيحيون احتراماً خاصاً ،ويحتملأيضاًأن يكون وجه التسمية ناشئاً عن قول المسيح( عليه السلام ) كما تحكيه الآية عنه إِذ تقول: ( كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ){[1008]} فسمّي المسيحيون لذلك بالنصارى .
ولما كان جمع من النصارى يقولون ما لا يفعلون ،ويزعمون أنّهم من أنصار المسيح( عليه السلام ) يقول القرآن في هذه الآية: ( ومن الذين قالوا إِنّا نصارى ...) وهم لم يكونوا صادقين في دعواهم هذه ،لذلك تستطرد الآية الكريمة فتبيّن نتيجة هذا الإِدعاء الكاذب ،وهو انتشار عداء أبدي فيما بينهم حتى يوم القيامة ،كما تقول الآية: ( فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) .
كما ذكرت الآية نوعاً آخر من الجزاء والعقاب لهذه الطائفة النصرانية ،وهو أنّهم سوف يعلمون نتيجة أعمالهم وسيرونها بأعينهم حيث تقول الآية: ( سوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) .
وتجدر الإِشارة هنا إلى عدّة أُمور ،هي:
1إِنّ عبارة «أغرينا » مشتقة من المصدر «إِغراء » وتعني إلصاق شيء بشيء آخر ،كما تعني الترغيب أو حمل الشخص على القيام بعمل معين ،بحيث يدفع الشخص إلى الارتباط بأهداف معينة .
وعلى هذا الأساس يكون مفهوم الآيةموضوع البحثهو أن نقض النصارى لعهدهم وارتكابهم المعاصي أديا إلى أن تنتشر العداوة فيما بينهم ويعمهم النفاق والخلاف ،( والمعلوم أن آثار الأسباب التكوينية والطبيعية تنسب إلى الله ) وما نراه اليوم من صراعات كثيرة بين الدول المسيحية ،كانت في يوم ما سبباً لاندلاع الحربين العالميتين ،وهي كذلك سبب للتكتلات المقترنة بالعدالة والبغضاء المستمرة فيما بينهم ،أضف إلى ذلك الخلافات المذهبية الكثيرة التي تسود بين الطوائف المسيحية التي مازالت سبباً لاستمرار الصراع والاقتتال فيما بينهم .
وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المراد من استمرار العداوة ،هو العداوة والبغضاء الموجودة بين اليهود والنصارى واستمرارها حتى فناء العالم ،ولكن الملاحظ من ظاهر الآية هو استمرار العداوة بين المسيحيين أنفسهم{[1009]} .
وغني عن البيان أنّ مثل هذه العاقبة لا تقتصر على المسيحيين وحدهم ،فلو أن المسلمين ساروا في نفس هذا الطريق فإِن مصيرهم سيكون مشابهاً لمصير المسيحيين أيضاً .
2إِنّ كلمة «العداوة » مشتقة من المصدر «عدو » وهي بمعنى التجاوز والانتهاك ،أمّا كلمة «البغضاء » المشتقة من المصدر «بغض » فهي تعني النفور والاستياء الشديد من شيء معين ،ويحتمل أن يكون الفرق بين الكلمتين المذكورتين هو أنّ لكلمة «بغض » طابع وجداني أكثر ممّا هو عملي ،كما في كلمة «العداوة » التي لها طابع عملي ،وقد يكون لكلمة «بعض » أو «بغضاء » مفهوم أشمل يستوعب العملي منه والقلبي الوجداني .
3يستدل من الآية هذه على أنّ النصارى كطائفة دينية ( أو اليهود والنصارى معاً ) سيكون لهم وجود في هذه الدنيا حتى يوم القيامة ،وقد يقول معترض في هذا المجال: أنّ الأخبار الإِسلامية تفيد بأن ديناً واحداً سيعم العالم كله بعد ظهور المهدي ( عج ) ولن تكون هناك أديان أُخرى غير هذا الدين الذي هو الإِسلام الحنيف ،فكيف إِذن يمكن الجمع والتوفيق ورفع هذا التناقض الظاهر ؟
والجواب هو أنّه يحتمل أن يبقى من المسيحية واليهودية حتى بعد ظهور المهدي( عج ) شيء ضئيل على شكل أقلية ضعيفة جداً ،لأن ما نعلمه هو بقاء حرّية الإرادة للبشر حتى في عصر المهدي( عج ) وإنّ الدين الإسلامي في ذلك العصر لا يأخذ طابعاً إِجبارياً ،مع أن الأغلبية العظمى من البشر ستتبع طريق الحق وتميل إِليه ،والأهم من هذا كله فإِن الحكم في الأرض سيكون للإِسلام وحده .