التّفسير
الجنّتان اللتان أعدتا للخائفين:
يترك القرآن الكريم وصفه لأهل النار وحالاتهم البائسة لينقلنا إلى صفحة جديدة من صفحات يوم القيامة ،ويحدّثنا فيها عن الجنّة وأهلها ،وما أعدّ لهم من النعم فيها ،والتي يصوّرها سبحانه بشكل مشوّق ومثير ينفذ إلى أعماق القلوب في عملية مقارنة لما عليه العاصون من عذاب شديد يحيط بهم والتي تحدّثت عنها الآيات السابقة ،وما ينتظر المؤمنين من جنّات وعيون وقصور وحور في الآيات أعلاه ،يقول سبحانه: ( ولمن خاف مقام ربّه جنّتان ) .
«الخوف » من مقام الله ،جاء بمعنى الخوف من مواقف يوم القيامة والحضور أمام الله للحساب ،أو أنّها بمعنى الخوف من المقام العلمي لله ومراقبته المستمرّة لكلّ البشر{[4938]} .
والتّفسير الثّاني يتناسب مع ما ذكر في الآية ( 33 ) من سورة الرعد: ( أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت ) .
ونقرأ في حديث للإمام الصادق ( عليه السلام ) في تفسيره لهذه الآية أنّه قال: «ومن علم أنّ الله يراه ويسمع ما يقول ،ويعلم ما يعلمه من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ،فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى »{[4939]} .
ويوجد هنا تفسير ثالث .هو أنّ الخوف من الله تعالى لا يكون بسبب نار جهنّم ،والطمع في نعيم الجنّة ،بل هو الخوف من مقام الله وجلاله فقط .
وهنالك تفسير رابع أيضاً ،وهو أنّ المقصود من ( مقام الله ) هو الخوف من مقام عدالته ،لأنّ ذاته المقدّسة لا تستلزم الخوف ،إنّما هو الخوف من عدالته ،الذي مردّه هو خوف الإنسان من أعماله ،والإنسان المنزّه لا يخشى الحساب .
ومن المعروف أنّ المجرمين إذا مرّوا بالمحكمة أو السجن ينتابهم شيء من الخوف بسبب جناياتهم على عكس الأبرار حيث يتعاملون بصورة طبيعيّة مع الأماكن المختلفة .
وللخوف من الله أسباب مختلفة ،فأحياناً يكون بسبب قبح الأعمال وانحراف الأفكار ،وأخرى بسبب القرب من الذات الإلهيّة حيث الشعور بالخوف والقلق من الغفلة والتقصير في مجال طاعة الله ،وأحياناً أخرى لمجرّد تصوّرهم لعظمة الله اللامتناهية وذاته اللامحدودة فينتابهم الشعور بالخوف والضعة أمام قدسيته العظيمة ..وهذا النوع من الخوف يحصل من غاية المعرفة لله سبحانه ،ويكون خاصاً بالعارفين والمخلصين لحضرته .
ولا تضادّ بين هذه التفاسير فيمكن جمعها في مفهوم الآية .
وأمّا ( جنّتان ) فيمكن أن تكون الأولى ماديّة جسمية ،والثانية معنوية روحية ،كما في قوله تعالى: ( للذين اتّقوا عند ربّهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهّرة ورضوان من الله ){[4940]} .
ففي هذه الآية مضافاً إلى الجنّة الماديّة حيث الأنهار تجري من تحت الأشجار والمطهّرات من الزوجات ،هناك جنّة معنوية أيضاً حيث الحديث عن رضوان الله تعالى .
أو أنّ الجنّة الأولى جزاء أعمالهم ،والجنّة الثانية تفضل على العباد وزيادة في الخير لهم ،يقول سبحانه: ( ليجزيهم اللّه أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ){[4941]} .
أو أنّ هناك جنّة للطاعة وأخرى لترك المعصية .
أو أنّ أحدهما للإيمان ،والثانية للأعمال الصالحة .
أو لأنّ المخاطبين من الجنّ والإنس ،لذا فإنّ كلّ واحدة من هاتين الجنّتين تتعلّق بطائفة منهما .
ومن الطبيعي أن لا دليل على كلّ واحد من هذه التفاسير ،ويمكن جمعها في مفهوم هذه الآية .إلاّ أنّ من الطبيعي أنّ الله تعالى هيّأ لعباده الصالحين نعماً عديدة لهم في الجنّة حيث مستقرّهم ،ولأهل النار ( مياه حارقة وسعير لا يطاق ) .