/م11
ثمّ يستعرض دليلا واقعياً واضحاً يعبّر عن حالة الخوف والاضطراب حيث يقول سبحانه:{لا يقاتلونكم جميعاً إلاّ في قرى محصنة أو من وراء جدر} .
«قرى » جمع قرية ،أعمّ من المزروعة وغير المزروعة ،وتأتي أحياناً بمعنى الناس المجتمعين في مكان واحد .
«محصّنة » من مادّة ( حصن ) على وزن «جسم » بمعنى مسوّرة ،وبناءً على هذا فإنّ ( القرى المحصّنة ) تعني القرى التي تكون في أمان بوسيلة أبراجها وخنادقها والمواضع التي تعيق تقدّم العدو فيها .
«جُدُر » جمع جدار ،والأساس لهذه الكلمة بمعنى الارتفاع والعلو .نعم ،بما أنّهم خرجوا من حصن الإيمان والتوكّل على الله ،فإنّهم بغير الالتجاء والاتكاء على الجدران والقلاع المحكمة لا يتجرّؤون على مواجهة المؤمنين .
ثمّ يوضّح أنّ هذا ليس ناتجاً عن جهل بمعرفة فنون الحرب ،أو قلّة في عددهم وعدّتهم ،أو عجز في رجالهم ،بل إنّ ( بأسهم بينهم شديد ) .
إلاّ أنّ المشهد الذي عرض يتغيّر في حالة مواجهتهم لكم ويسيطر عليهم الرعب والاضطراب بصورة مذهلة . وهذا الأمر تقريباً يمثّل أصلا كليّاً في مورد اقتتال الفئات غير المؤمنة فيما بينهم ،وكذلك محاربتهم للمؤمنين .
ونشاهد مصاديق هذا المعنى بصورة متكرّرة أيضاً في التأريخ المعاصر ،حيث نلحظ عند اشتباك مجموعتين غير مؤمنتين مع بعضهما شدّة الفتك وقسوة الانتقام وشراسة المواجهة بينهما بصورة لا تدعو للشكّ في قوّة كلّ منهما ...ولكن لو تغيّرت المعادلة ،وأصبحت المواجهة بين مجموعة غير مؤمنة بالله وأخرى مؤمنة مستعدّة للشهادة في سبيل الله ،عند ذلك نرى أعداء الحقّ يلوذون إلى القلاع المحكمة ويخفون أنفسهم في المواضع ووراء المتاريس وخلف الأسلحة ،ويسيطر عليهم الخوف ويهيمن عليهم الرعب ويملأ كلّ وجودهم ،والحقيقة أنّ المسلمين إذا جعلوا إيمانهم وقيمهم الإسلامية هي الأساس فإنّهم منتصرون ومتفوقون على الأعداء بلا ريب .
ولهذا السببواستمرارا لما ورد في نفس الآيةنستعرض سبباً آخر من أسباب اندحار المنافقين ،حيث يقول سبحانه: ( تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى ذلك بأنّهم قوم لا يعقلون ) .
«شتّى » بمعنى ( شتيت ) أي متفرّق .
إنّ القرآن الكريم في تحليل المسائل بشكل دقيق جدّاً وملهم يؤكّد على أنّ ( التفرقة والنفاق الداخلي ) وليدة ( الجهل وعدم المعرفة ) لأنّ الجهل عامل الشرك ،والشرك عامل للتفرقة ،والتفرقة تسبّب الهزيمة .وبالعكس فإنّ «العلم » عامل لوحدة العقيدة والعمل والانسجام والاتفاق ،وهذه الصفات بحدّ ذاتها مصدر للانتصار .
وهكذا فإنّ الانسجام الظاهري للعناصر غير المؤمنة والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية يجب ألاّ تخدعنا أبداً ،لأنّ وراءها قلوب متناحرة متنافرة ،ودليلها واضح وهو انهماك كلّ منهم بمنافعه المادية بشكل شديد ،وبما أنّ المنافع غالباً ما تكون متعارضة ،فعندئذ تبرز الاختلافات والشحناء فيما بينهم ،ولن تغني عن ذلك العهود والاتفاقيات وشعارات الوحدة والانسجام الظاهري .في الوقت الذي تكون فيه وحدة وانسجام المؤمنين على قواعد وأصول ربّانية كأصل الإيمان والتوحيد والقيم الإلهية ،وإذا أصيب المسلمون بانتكاسة في أعمالهم فإنّ ذلك دليل على ابتعادهم عن حقيقة الإيمان وما لم يعودوا إلى الإيمان فإنّ وضعهم لن يتحسّن .