التّفسير
في هذه الآية التي هي آخر الآيات من سورة الأنعام إِشارة إِلى أهمية مقام الإِنسان ومكانته في عالم الوجود لتكميل الأبحاث الماضية في مجال تقوية دعائم التوحيد ،ومكافحة الشرك ،يعني أن يعرف الإِنسان قيمةَ نفسه ،كأرقى وأفضل كائن في عالم الخلق ،ولا يسجد للخشب والحجر ،ولا يركع أمام الأصنام المختلفة الأُخرى ،ولا يقع في أسرها ،بل يكون أميراً وحاكماً عليها بدل أن يكون أسيراً ومحكوماً لها .
لهذا قال تعالى في مطلع كلامه: ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ){[1335]} .
إِن الإِنسان الذي هو خليفة الله في أرضه ،والذي سُخِرت له كل منابع هذاالعالم وصدر الأمر بحكومته على جميع الموجودات من جانب الله تعالى ،لا يجوز أن يسمح لنفسه بالسقوط إِلى درجة السجود للجمادات .
ثمّ أشار سبحانه إِلى اختلاف المواهب والاستعدادات في المواهب البدنية والروحية لدى البشر ،والهدف من هذا الاختلاف والتفاوت ،فيقول: ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ) من المواهب المتنوعة والمتفاوتة ويختبركم بها .
ثمّ تشير في خاتمة الآية الحاضرة إِلى حرية الإِنسان في اختيار طريق السعادة وطريق الشقاء نتيجة هذه الاختبارات والابتلاءات ،إِذ يقول: ( إِن ربّك سريع العقاب وإِنّه لغفور رحيم ) ،فإِنّ ربّك سريع العقاب مع الذين يفشلون في هذا الاختبار ،وغفور رحيم للذين ينجحون فيه ويسعون لإِصلاح أخطائهم .
التفاوت بين أفراد البشر ومبدأ العدالة:
لا شك أنَّ بين أفراد البشر طائفة من الاختلافات والفوارق المصطنعة ،التي هي نتيجة المظالم التي يمارسها بعض أفراد البشر ضد الآخرين ،فهناك مثلا جماعة يمتلكون ثروات هائلة ،وجماعات أُخرى تعاني من الفقر المدقع ،جماعة يعانون من الجهل والأُمية بسبب عدم توفّر مستلزمات الدراسة ،وجماعة أُخرى تبلغ المراتب العليا في الثقافة والعلم بسبب توفّر كلِّ الوسائل اللازمة للتحصيل والدراسة .
جماعةٌ يعانون من المَرضَ والعِلّة بسبب سوء التغذية وندرة الوسائل الصحيّة ،في حين يحظى أفراد معدودون بقدر كبير من السلامة والعافية ،بسبب توفر جميع الإِمكانيات .
إِنّ مثل هذه الفوارق والاختلافات: الثروة والفقر ،والعلم والجهل ،والسلامة والمرض ،هي في الأغلب وليدة الاستعمار والاستثمار ،وهي مظاهر مختلفة للعبودية والمظالم الظاهرة والخفية .
إِنَّ من المسلَّم أنه لا يُمكن أن تعتبر هذه الأُمور من فعل المشيئة الإِلهية ،وليس من الصحيح مطلقاً الدفاع عن مثل هذه الاختلافات غير المبرَّرة أساساً .
ولكن في نفس الوقت لا يمكن إِنكار أنّه حتى لو روعيت جميع أُصول العدالة في المجتمع الإِنسانيأيضاًفإِنّه لا يتساوى الناس جميعاً من حيث القابليات ومن حيث الفكر ،والذوق ،وفي الذكاء ،والسليقة وحتى من جهة التركيب البدنيّ .
ولكن هل وجودُ هذه الاختلافات والفوارق مخالفٌ لمبدأ العدالة ،أو أنّه على العكس يكون هو العدل بمعناه الواقعي ،يعني أنّ مبدأ وضع كل شيء في محلّه يوجب أن يكون الأفراد غير متساوين .
إِذا كان جميع الأفراد في المجتمع الإِسلامي متساوين ومتشابهين في المواهب والقابليات كالقماش أو الأواني التي تخرج من مصنع واحد ،كان المجتمع الإِنسانيحينئذمجتمعاً ميتاً ساكناً جامداً عارياً عن التحرك والتكامل .
اُنظروا إِلى نبتة الورد ،فهناك جذور قوية متينة ،وسوق رقيقة ،ولكنّها متينة نوعاً مّا ،وفروع ألطف ،ثمّ أوراق وأوراد بعضها ألطف من بعض ،وهذه المجموعة المتنوعة في تراكيبها والمختلفة في متانتها ولطافتها تشكل نبتة وردة جميلة تختلف فيها الخلايا بحسب اختلافها في وظائفها ،وتختلف فيها القابليات والاستعدادات بحسب اختلافها ووظائفها .
إِن نفس هذا الموضوع يلحظ في العالم البشري ،فأفراد البشر يشكلون من حيث المجموع شجرةً كبيرةً واحدةً يقوم كل فرد برسالة خاصّة في هذا الصرح العظيم ،وله بنيان مخصوص يتلاءم مع وظائفه .
ولهذا يقول القرآن الكريم: إِنّ هذه الفوارق وهذا التفاوت وسيلة لاختباركم وامتحانكم ،لأن الاختبار والامتحان الإِلهيكما قلنا سابقاًيعني «التربية » .
وبهذا يُجاب على كل اعتراض وإِشكال يورَد في المقام على أثر الفهم الخاطئ لمفهوم الآية .