/م161
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} هذه الآية مبينة لبعض أحوال البشر التي نعبر عنها في عرف هذا العصر بالسنن الاجتماعية وقد عطفت على ما قبلها لأنها في سياق تقرير التوحيد وإبطال خرافات الشرك على ما سنبينه .والخلائف جمع خليفة وهو من يخلف أحدا كان قبله في مكان أو عمل أو ملك .وفي الخطاب وجهان أحدهما:أنه للبشر والمعنى أنه تعالى جعلهم خلفاءه في الأرض بالتبع لأبيهم آدم على ما تقدم في سورة البقرة أو جعل سنته فيهم أن تذهب أمة وتخلفها أخرى ، ثانيهما:أن الخطاب للأمة المحمدية وأنه جعلهم خلفاء لمن سبقهم من الأمم في الملك واستعمار الأرض وهذا هو الراجح المختار ويؤيده قوله تعالى بعد ذكر إهلاك القرون الخالية{ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} ( يونس 14 ) وفي معناها آيات أخرى وقال تعالى:{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} ( النور 53 ) وهذا استخلاف خاص وذلك عام .
والمعنى أن ربكم الذي هو رب كل شيء هو الذي جعلكم خلائف هذه الأرض بعد أمم سبقت لكم في سيرتها عبر ورفع بعضكم فوق بعض درجات في الخلق والخلق والغنى والفقر ، والقوة والضعف والعلم والجهل والعقل والجهل{[1095]} والعز والذل ليختبركم فيما أعطاكم أي يعاملكم معاملة المختبر لكم في ذلك فيبني الجزاء على العمل ، بمعنى أن سننه تعالى في تفاوت الناس فيما ذكرنا من الصفات الوهبية والأعمال الكسبية هي التي يظهر بها استعداد كل منهم ودرجة وقوفه في تصرفه في النعم والنقم عند وصايا الدين وحدود الشرع ، ووجدان الاطمئنان في القلب ، والحقوق والواجبات تختلف باختلاف أحوال الناس في تلك الدرجات ، وسعادة الناس أفرادا وأسرا وأمما وشقاوتهم في الدنيا والآخرة تابعة لأعمالهم وتصرفاتهم في مواهبهم ومزاياهم وما يبتليهم به تعالى من النعم والنقم ، ولا شيء مما يطلبه الناس من سعادة الدنيا ونعمها أو رفع نقمها أو من ثواب الآخرة والنجاة من عذابها إلا وهو منوط بأعمالهم التي ابتلاهم بها بحسب ما قرره شرعه المبني على توحيده المجرد ، ومضت به سننه في نظام الأسباب والمسببات ، فبقدر علمهم وعملهم بالشرع وسنن الكون والاجتماع البشري يكون حظهم من السعادة .
فهذه الهداية الاجتماعية مقررة لعقيدة التوحيد وهادمة لقواعد الشرك التي هي عبارة عن اتكال الناس واعتمادهم على ما اتخذوا بينهم وبين ربهم من الوسطاء ليقربوهم إليه ويشفعوا لهم عنده فيما يطلبون من نفع ودفع ضر كما تقدم شرحه ولهذا ترى هؤلاء المشركين من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون أشقى الناس وأبعدهم عن نيل مآربهم ، وترى خصومهم دائما ظافرين بهم ، وإن كانوا شرا منهم فيما عدا هذا النوع من الشرك ، فربما ترى قوما يدعون الإيمان بالله ورسله كلهم أو بعضهم يعتمدون في قضاء حاجهم من شفاء مرض وسعة رزق ونصر على عدو وغير ذلك على التوسل ببعض الأنبياء والصالحين وذبح النذور لهم ودعائهم والطواف بقبورهم والتمسح بها ، وتجد آخرين ليس لهم مثل اعتقادهم وعملهم هذا وهم أحسن منهم صحة وأوسع رزقا وأعز ملكا ، وإذا قاتلوهم ينتصرون عليهم ويسودونهم ، وسبب ذلك أنهم يعرفون سنن الله في الأسباب والمسببات وأن الرغائب إنما تنال بالأعمال مع مراعاة تلك السنن سواء كانوا يعلمون مع ذلك أن الله تعالى رب الخلق هو الخالق والواضع لنظام خلقه بتلك السنن ، وأنه لا تبديل لسننه كما أن لا تبديل لخلقه ، أم لم يكونوا يعلمون ذلك .
ولو استوى شعبان من الناس في الجري على هذه السنن الربانية للاجتماع الإنساني في القوة والضعف والعز والذل والحرية والعبودية وكان أحدهما مؤمنا بالله مستمسكا بوصاياه وهداية دينه والآخر كافرا به غير مهتد بوصاياه ، فلا شك في أن المؤمن المهتدي يكون أعز وأسعد في دنياه من الآخر كما أنه يكون في الآخرة هو الناجي من العذاب الفائز بالثواب ، ومن جهل مصداق ذلك في تواريخ الأمم القديمة لعدم ضبطها فأمامه تاريخ الأمة الإسلامية واضح جلي ولكن أكثر المنتمين إلى الإسلام في هذا العصر يجهلون تاريخهم كما يجهلون حقيقة دينهم ، حتى أن كثيرا من حملة العمائم الدينية منهم يجهلون حقيقة التوحيد الذي بينته هذه الآيات بالإجمال بعد شرح السورة له بالتفصيل ، وربما يعد بعضهم الداعي إليه كافرا أو مبتدعا ، ويعتمدون في هذا على قوة أنصارهم من العوام الذين أضلوهم ، وهم غافلون عن عقاب الله لهم وعن كونهم صاروا فتنة للناس وحجة على الإسلام فأعداؤه يحتجون بجهلهم وسوء حالهم على فساد دينهم المسمى وإن لم يكن هو الإسلام الذي نزل به القرآن بل ضده ، وأولياؤه الجاهلون يتسللون منه فرادى وثبات كالتلاميذ بما يظهر للذين يقتبسون علوم سنن الكائنات وعلم الاجتماع من مخالفته لها ، وإنما المخالف لها بدعهم وتقاليدهم الخرافية .وأما دين الله في كتابه القرآن فهو المرشد الأعظم لها ولو فهموه وعملوا به لكانوا أسبق إليها .
وأضرب لهم مثلا أهل مراكش:أنشأنا منذ أنشأنا المنار نذكرهم بآيات الله وسننه وأنذرناهم بالهلاك والزوال بفقد الاستقلال إذ لم يوجهوا كل همتهم إلى ما تقتضيه حالة العصر من التربية والتعليم العسكري وغيره ، وأرشدناهم إلى الاستعانة على ذلك بالدولة العثمانية فكان يبلغنا عنهم أنهم يجتمعون عند حلول النوائب بهم وتعدي الأجانب عليهم عند قبر ( مولاي إدريس ) في فاس راجين أن يكشف باستنجادهم إياه ما نزل لهم من البأس ، أنذرناهم بطشة الله بترك هدي كتابه وتنكب سننه فتماروا بالنذر واتكلوا على ميت لا يملك لهم ولا لنفسه شيئا من نفع ولا ضرر وكم سبق هذه العبرة من عبر{ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مكدر} ( القمر 17 ) ؟
نزل في معنى هذه الآية آيات كثيرة ناطقة بأن نعم الله في الأنفس والآفاق مما يفتن الله به عباده أي يربيهم ويختبرهم ليظهر أيهم أحسن عملا فيترتب عليه الجزاء في الدارين .قال تعالى في بني إسرائيل{ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجون} ( الأعراف 167 ) وقال في خطاب كل البشر{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} ( الأنبياء 35 ) وقال بعد ذكر خلق السماوات والأرض وخلق الموت والحياة{ ليبلوكم أيكم أحسن عملا} ( هود 7 والملك 2 ) وقال:{ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} ( الكهف 7 ) وقال في ابتلاء المؤمنين بالكافرين{ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} ( الفرقان 20 ) وقال في خطاب المؤمنين{ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} ( آل عمران 186 ) وقال:{ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} ( البقرة 154 ) وقال:{ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} ( محمد 34 ) وقال:ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} ( العنكبوت 1- 2 ) وقال حكاية عن نبيه سليمان{ هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم} ( النمل 40 ) وثم آيات أخرى .
أرشدنا الله تعالى في هذه الآيات وأمثالها إلى طريق الاستفادة من سننه في جعلنا خلائف في الأرض ورفع بعضنا درجات على بعض ، بأن نصبر في البأساء والضراء ، ونشكر في السراء ، والشكر عبارة عن صرف النعم فيما وهبت لأجله ، وهو ما يرضي المنعم تعالى وتظهر به حكمته ، وتعم رحمته كإنفاق فضل المال في وجوه البر التي تنفع الناس وإعداد القوة بقدر الاستطاعة لتأييد الحق وإقامة العدل .ولكل نعمة بدنية أو عقلية أو علمية أو مالية أو حكمية شكر خاص ، ومن لم يهتد بهذه الهداية الربانية في الاستفادة من النعم والنقم فإنه يسيء التصرف في الحالتين فيظلم نفسه ويظلم الناس ، وإن العقل الصحيح والفطرة السليمة مما يهدي إلى الصبر والشكر ، ولكن لا تكمل الهداية إلا بتعليم الوحي ، لأن الإسلام قد شرع لمساعدة العقل على حفظ مواهب الله تعالى في الفطرة ومنع الهوى من إفسادها ، وصدها عن الوصول إلى كمالها ، ولذلك سمي دين الفطرة .
فالمسلمون أجدر الناس بالصبر ، والصبر عون على الجهاد والجلاد ، ومنجاة من جميع الشدائد والأهوال ، وأحقهم بالشكر والشكر سبب للمزيد من النعم .فلو كانوا معتدين به كما يجب لكانوا أعظم الناس ملكا وأعدلهم حكما .وأوسعهم علما ، وأشدهم قوة ، وأكثرهم ثروة ، وكذلك كان به سلفهم .وقد أخبرهم الله بأنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .ولكن التقليد أضلهم عن تدبر القرآن ، والاتكال على الميتين حال بينهم وبين سنن الله في هذا الإنسان{ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} ( طه 121- 122 ){ وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} ( الجن 16- 17 ) ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ، ونعيمها أدوم وأعلى كما قال تعالى بعد بيان حال من يريد بعمله حظوظ الدنيا وحدها ، ومن يريد الآخرة ويسعى لها سعيها{ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ا نظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} ( النحل 20- 21 ) وإنما جعل الدنيا للمؤمن والكافر ، والبر والفاجر لئلا تعظم الفتنة بجعل نعيمها كله أو معظمه للكفار وحدهم فيكون الناس كلهم لضعفهم كفارا ، قال تعالى:{ أهم يقسمون رحمة ربك ؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ، ورحمة ربك خير مما يجمعون ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون} إلى قوله{ والآخرة عند ربك للمتقين} ( الزخرف 31- 32 ) .
{ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إنه تعالى سريع العقاب لمن كفر به أو بنعمه وخالف شرعه وتنكب سننه ، وسرعة العقاب تصدق في عقاب الدنيا والآخرة فإن العقاب العام عبارة عما يترتب على ارتكاب الذنوب من سوء التأثير وهو في الدنيا ما حرمت لأجله من الضرر في النفس أو العقل أو العرض أو المال أو غير ذلك من الشؤون الاجتماعية ، فإن الذنوب ما حرمت إلا لضرها وهو واقع مطرد في الدنيا في ذنوب الأمم وأكثري في ذنوب الأفراد ولكنه يطرد في الآخرة بتدنيسها النفس وتدسيتها كما وضحناه مرارا ، وقد يستبطئ الناس العقاب قبل وقوعه لأن ما في الغيب مجهول لديهم فيستبعدونه وهو عند الله معلوم مشهود فليس ببعيد{ أنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا} ( المعارج 6- 7 ) .
وأنه تعالى على سرعة عقابه وشدة عذابه للمشركين والكافرين غفور للتوابين الأوابين رحيم بالمؤمنين والمحسنين .بل سبقت رحمته غضبه ووسعت كل شيء ولذلك جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها وقد يضاعفها بعد ذلك أضعافا كثيرة ، وجزاء السيئة سيئة مثلها وقد يغفرها لمن تاب منها{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} ( الشورى 30 ) وقد أكد المغفرة والرحمة هنا بما لم يؤكد به العقاب وهو اللام ، فنسأله تعالى أن يغفر لنا ذنوبنا ويكفر عنا سيئاتنا ويتغمدنا برحمته الواسعة ويجعل لنا نصيبا عظيما من رحمته الخاصة ويكون منه توفيقنا لإتمام تفسير كتابه على ما يحب ويرضى من هداية الأمة ، وكشف الغمة فنكون هادين مهدين ، وقد تم تفسير ربعه بفضله وتوفيقه والحمد لله رب العالمين .
استدراك على تفسير{ ولا تزر وازرة وزر أخرى}
اعلم أيها المسلم الحريص على دينه أن أهل الحق من سلف الأمة إنما سموا بأهل السنة والجماعة لأنهم ساروا في الاهتداء بالإسلام على السنة وهي الطريقة العملية التي جرى عليها النبي صلى الله عليه وسلم في بيان القرآن كما أمره الله تعالى بقوله:{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} ( النحل 44 ) وتلقاها عنه بالعمل جماعة الصحابة وقد أصاب الإمام أحمد بن حنبل ( ر ح ) في حصره حجية الإجماع الديني بإجماع الصحابة رضي الله عنه وما روي من الآثار في شذوذ أفراد عما ثبت عمل الجمهور به فلا يعتد به فعمل الجمهور هو السنة وهو الجماعة ، والأقوال وحدها لا يتبين بها المراد بيانا قطعيا لا يحتمل التأويل كالأفعال وإن كانت في غاية الجلاء والوضوح .ولذلك قال علي المرتضى كرم الله تعالى وجهه لابن عباس رضي الله تعالى عنهما عندما أرسله لمحاجة الخوارج:احملهم على السنة فإن القرآن ذو وجوه ، فمراده بالسنة ما ذكرناه في معناها الموافق للغة لا المعنى الاصطلاحي للمحدثين وسائر علماء الشرع الذي يشمل الأخبار القولية وغيرها فإن هذه الأخبار ذات وجوه أيضا وربما كانت وجوهها التي يتوجه إليها أهل التأويل أكثر من وجوه القرآن لأنها دونه في الفصاحة والبلاغة والبيان ، ولذلك أوجز القرآن في بيان أحكام الدين العملية ووكل بيانها لعمل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أحال في بيانها على العمل فقال"صلوا كما رأيتموني أصلي "{[1096]} .أقول هذا تمهيدا لتذكيرك بعدم الاغترار بما لعلك اطلعت أو تطلع عليه من الوجوه التي حمل عليها بعض المتفقهة والمصنفين في التفسير قوله تعالى في سورة النجم{ أن لا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ( النجم 38 – 39 ) فحرفوا الكلم عن مواضعه تارة بالتأويلات السخيفة وتارة بدعوى النسخ الباطلة وتارة بدعوى أن هاتين الآيتين من شريعة إبراهيم وموسى لا من شرعنا وتارة بتخصيصهما بالكفار دون المسلمين .
وقد غفل هؤلاء عن كون مضمون الآيتين من قواعد الدين وأصول الإسلام الثابتة على ألسنة جميع الرسل ومؤيدا بآيات كثيرة بلفظها ومعناها كآية الأنعام التي نكتب هذا تتمة لتفسيرها .وآية سورة فاطر{ ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير} ( فاطر 18 ) والآيات الكثيرة المعلقة للفلاح والخسر ودخول الجنة والنار بالأعمال والآيات الناطقة بأن الناس لا يجزون إلا بأعمالهم وإنما يجزون بأعمالهم هكذا بصيغتي الحصر الذي تعد دلالته أقوى الدلالات في بيان المراد ولذلك عبر به عن التوحيد الذي هو أساس أركان الدين كلها ، وهذه القاعدة في الجزاء من أصول الدين وهي مقررة للتوحيد أيضا كما بيناه في تفسيرها مفصلا وأشرنا فيه إلى بعض تلك آيات .
وأما هؤلاء المقلدون من المتأخرين فسبب غفلتهم وتأويلهم أنهم يحاولون تصحيح كل ما فشا من البدع بين أقوامهم والمنسوبين إلى مذاهبهم وليسوا من أهل الدليل ، ولكنهم لا يتركون ضلالة التأويل ، وأما أهل النظر في أدلة المذاهب منهم فلا هم لهم من النظر في الكتاب والسنة إلا أخذ ما يرونه مؤيدا لمذاهبهم وترك ما سواه بضرب من التأويل ، أو دعوى النسخ أو احتماله بغير دليل .
ولو كان هؤلاء المقلدون العميان هم الذين جوزوا وحدهم للناس إهداء عباداتهم للموتى ..ولكن تابعهم على ذلك بعض علماء السنة من أهل الأثر والنظر إذ ظنوا أن الأحاديث التي أشرنا إليها في الدعاء للموتى والإذن للأولاد بأن يقضوا ما على والديهم من صيام أو صدقة أو نسك تدل على انتفاع الموتى بعبادات الأحياء مطلقا غافلين عن حصر ما ورد من ذلك في الصحيح في الأولاد الذين خص الشارع المؤمنين منهم بذلك في الوقائع التي سئل عنها ، وحديث"صام عنه وليه "يتعين أن يراد بالولي منه الولد ليوافقها مع سائر الآيات إذ لا يمكن تأويلها كلها ، وهي من الأصول الصريحة القطعية لأجل حمله على عموم الأولياء وهو غير متعين على أن عائشة الراوية له كانت تصرح بعدم جواز صيام أحد عن أحد عملا بالنصوص العامة كما تقدم ، وقد قال الطحاوي من علماء الأثر إنه منسوخ .وما قلناه أولى لجمعه بين الروايات وموافقته للآيات ولعمل أهل المدينة الذي هو حجة مالك وهو هنا مؤيد لعمل الصحابة عموما وخصوصا لا حجة مستقلة .وقد سقط بهذا الجمع كل ما يتعلق بإطلاق الجواز من الأقوال .
وأما الدعاء لأموات المسلمين ولأحيائهم فهو عبادة لا ينتقل ثوابها من الداعي إلى المدعو له ولم يرو في إهداء ثواب الدعاء شيء .بل ثوابه للداعي وحده سواء استجابه الله أم لا ؟ وإنما ينتفع المدعو له بالاستجابة واستجابة الدعاء للأحياء والأموات لا يمكن أن تكون بما ينقض قواعد الشرع ولا بما يبطل سنن الله تعالى في الكون ، فنفوض الأمر في صفته إلى الله تعالى ونكتفي من العلم بفائدة الدعاء لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وغيرهم أنه عبادة مشتملة على تحاب المؤمنين وتكافلهم واهتمامهم بأمر سعادتهم في الدنيا والآخرة .وما عدا الدعاء من العبادات فإنما ورد الإذن فيه للأولاد وولد المرء من علمه فانتفاعه بعمله يدخل في القاعدة لا أنه يعارضها ، ولو كان الإذن عاما لكثر عمل الصحابة به وروي مستفيضا أو متواترا عنهم لتوفر الدواعي على نقله ، فإن من دأب البشر وطباعهم الراسخة الاهتمام بكل ما يتعلق بأمر موتاهم وقد نقل الرواة من التابعين كل ما رأوه وعملوا به من أعمال الصحابة رضي الله عنه .
كتبت هذا لأنني بعد كتابة ما تقدم من تفسير الآية وطبعه راجعت ما كتبه العلامة المحقق ابن القيم في هذه المسألة في كتاب الروح فوجدته قد أطنب فيها وأطال كعادته بمال لم يطل به غيره ولا قارب ، وأورد كل ما قيل وما تصور أن يقال في إثبات وصول ثواب أعمال الأحياء إلى الأموات مطلقا ونفيه مطلقا أو مقيدا بما تسبب إليه الميت في حياته أو بالعبادات التي تدخلها النيابة كالصدقة والحج دون غيرها كالتلاوة والصلاة ، وكذا ما وقع فيه الخلاف من فروع المسألة ، وذكر حجج كل فريق ورد المخالفين لهم عليها وأكثرها نظريات باطلة ولكنه على سعة اطلاعه ودقة فهمه قد غفل عن كون الأحاديث التي جعلها حجة المثبتين الوحيدة على انتفاع أموات المسلمين بأي عمل يهدي إليهم ثوابه من عمل أحيائهم ، قد وردت في أعمال خاصة ورخص للأولاد وحدهم أن يقوموا بها عن والديهم .وهو لم ينس من حجج المانعين لوصول ثواب قراءة القرآن ونحوها عدم نقل شيء من ذلك عن السلف ولكنه وهو من أكبر أنصار أتباع السلف قد أجاب عن هذه الحجة بجوا ب ضعيف جدا قال:
فإن قيل فهذا لم يكن معروفا في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير ولا أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام .فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه .
فالجواب إن مورد هذا السؤال إن كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار قيل له ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال ؟ وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات ؟ وإن لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع .وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدي إلى الموتى ولا كانوا يعرفون ذلك البتة ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم ولا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت ولا ثواب هذه الصدقة والصوم ، ثم يقال لهذا القائل لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال اللهم اجعل ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت فإن القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر فلم يكونوا ليشهدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم .
فإن قيل فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الصوم والصدقة دون القراءة .قيل:هو صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له وهذا سأله عن الصدقة فأذن له ولم يمنعهم مما سوى ذلك وأي فرق بين وصول ثواب الصيام الذي هو مجرد نية وإمساك وبين وصول ثواب القراءة والذكر ؟ والقائل إن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا علم له به ، فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه فما يدريه أن السلف كانوا يفعلونه ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه ؟ بل يكفي اطلاع عالم الغيوب على نياتهم ومقاصدهم لا سيما والتلفظ بنية الإهداء لا يشترط كما تقدم .
"وسر المسألة أن الثواب ملك للعامل فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن وحجر على المرء أن يوصله إلى أخيه وهذا عمل الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير العلماء "ا ه .
أقول وبالله التوفيق والهداية:عفا الله عن شيخنا وأستاذنا المحقق فلولا الغفلة عن تلك المسألة الواضحة لما وقع في هذه الأغلاط التي نردها عليه ببعض ما كان يردها هو في غير هذه الحالة وسبحان من لا يغفل ولا يعزب عن علمه شيء .
أما قوله لمورد السؤال إذا كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام:ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن إلخ فنجيب عنه على طريقتنا بأن المانع لذلك نصوص القرآن التي تقدمت في أن عمل كل عامل هو دون غيره والسائل إنما يعترف بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن من سأله عن قضاء صيام وحج ثبتا على أحد والديه وكذا عن الصدقة ولا سيما عمن لم يوص بها من الوالدين:هل يفعلون ذلك عن والديهم ؟ فأذن لهم بأن يقضوا دين الله عنهم كما يقضون ديون الناس وأن يتصدقوا عنهم فهذه حقوق ثبتت على الوالدين أو صدقة كان المتوقع من أحدهم الوصية بها فقام مقامهم أولادهم فيها أو تبرعوا عنهم فهي ليست كقراءة القرآن التي ليست مفروضة على الأعيان في غير الصلاة كالحج والصيام ولا من الأعيان المملوكة كالمال الذي كان ملك الميت وانتقل إلى ولده أو من كسب الولد الذي عد في الحديث الصحيح من كسب الوالد كما يأتي قريبا وقد ألحقه الله تعالى به في قوله:{ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} وبهذا كانت غير معارضة لتلك الآيات ولو عارضتهما لكانت هي المرجوحة الساقطة بها فبطل قوله:وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات إذ العمل مختلف والعامل المأذون له به له خصوصية ليست لغيره فلا تماثل .
وأما تعليله عدم نقل شيء من هذه الأعمال عن السلف الذي اعترف به وأيده بأنهم كانوا يكتمون أعمال البر فجوابه أنه ما من نوع من أنواع البر المشروعة إلا وقد نقل عنهم فيه الكثير الطيب حتى الصدقات التي صرح القرآن بتفضيل إخفائها على الإبداء تكريما للفقراء وسترا عليهم ولما قد يعرض فيها من المن والأذى والرياء المبطلة لها .وقراءة القرآن للموتى ليست كذلك حتى أن المراآة بها مما لا يكاد يقع ، لأن الذي يقرأ لغيره لا يعد من العباد الممترين على غيرهم فيكتمه خوف الرياء .ثم الذين نصبوا أنفسهم للإرشاد والقدوة والدعوة إلى الخير من الصحابة والتابعين لم لم يؤثر عنهم قول ولا فعل في هذا النوع من البر الذي عم بلاد الإسلام بعد خير العصور لو كان مشروعا ؟ فهل يمكن أن يقال إنهم كانوا يتركون الأمر بالبر كما قيل جدلا أنهم أخفوا هذا النوع منه وحده ؟ كلا إنهم كانوا هداة بأقوالهم وأعمالهم وتأثير الأعمال في الهداية أقوى .
وأما تعليله تخصيص الإذن في الأحاديث بالصوم والصدقة والحج دون القراءة بقوله إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك بل خرج مخرج الجواب ولم يمنعهم مما سوى ذلك ولا فرق بين الصوم والقراءة ، فجوابه أن عدم ابتداء الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بذلك على إطلاقه دليل على أنه ليس من دينه ، وإلا لم يكن مبينا لم أنزل إليه كما أمر به وهذا محال .وسؤال أولئك الأفراد إياه دليل على أنهم لم يكونوا يعلمون من نصوص الدين ولا من السنة العملية ما يدل على شرعيته فلذلك استفتوه فيه ، ولم يستفتوه في العمل عن غير الوالدين لنص القرآن في منعه .
وأما الفرق بين وصول ثواب الصيام ووصول ثواب الذكر فقد بينا آنفا أنه لا دليل على وصول ثواب الصيام مطلقا من كل من يصوم عن ميت حتى يقاس عليه غيره ، لأن ما ذكر من أحاديث الصيام خاص بالقضاء من الولد نيابة عن الوالد ، وليس فيه أنه عمله لنفسه وأهدى ثوابه لغيره كما تقدم على أن هذا مما ورد على خلاف القياس فلا يقاس عليه .
وأما قوله إن القائل بأن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا علم له به إلخ ، فجوابه أن الذي يثبت ما ذكر للسلف أجدر بقول ما لا علم به وناهيك به إذا كان معترفا بأنه لم ينقل ذلك عن أحد منهم ، والنفي هو الأصل وحسب النافي نفيه للنقل عنهم في أمر تدل الآيات الصريحة على عدم شرعيته ويدل العقل وما علم بالضرورة من سيرتهم أنه لو كان مشروعا لتواتر عنهم أو استفاض .
وأما قوله:وسر المسألة أن الثواب ملك للعامل إلخ ، فلم نكن ننتظره من أستاذنا ومرشدنا على اتباع النقل في أمور الدين دون النظريات والآراء .على أن هذه القاعدة النظرية غير مسلمة فإن الثواب أمر مجهول بيد الله تعالى وحده كأمور الآخرة كلها ، فإنها من عالم الغيب التي لا مجال للعقل فيها ، وما وعد الله تعالى به المؤمنين الصالحين المخلصين له الدين من الثواب على الإيمان والأعمال بشروطها لا يعرفون كنهه ولا مستحقه على سبيل القطع ولذلك أمروا بأن يكونوا بين الخوف والرجاء .
ولا يوجد في الآيات ولا الأخبار الصحيحة ما يدل على أن العامل يملك ثواب عمله وهو في الدنيا كما يملك الذهب والفضة أو القمح والتمر فيتصرف فيه كما يتصرف فيها بالهبة والبيع ، بل ذلك جزاء بيد الله تعالى للذين آمنوا وعملوا الصالحات بحسب تأثير الإيمان والعمل في إعداد أنفسهم له بتزكيتها وجعلها أهلا لجواره ورضوانه كما قال:{ ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى} ( طه 74- 75 ){ قد أفلح من تزكى} ( النبأ 14 ) إلخ{ قد أفلح من زكاها} ( الشمس 9 ){ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} ( التوبة 104 ) وقال{ سيجزيهم وصفهم} ( الأنعم 139 ) فذكر الوصف على إطلاقه وتقدم تفسيره ، وذكر في آيات أخرى الصفات العامة التي هي مصدر جميع الأعمال وهي الصبر والشكر والصدق ومنها ما ذكر بصيغة الحصر .
فهذه الآيات الكثيرة الصريحة المعنى المعقولة الحكمة وسائر آيات الجزاء ، والآيات النافية للعدل والفداء والآيات النافية لملك نفس لنفس شيئا من الأشياء في الآخرة ، تؤيد كلها آية الأنعام التي نحن بصدد تفسيرها وآيات النجم وغيرها ، وتبطل دعوى ملك الإنسان لثواب عباداته وتصرفه بها ، ولو كان الثواب كالمال يوهب لكان يباع ويشتري ولو كان كذلك لكان كثير من الفقراء يبيعون ثواب كثير من أعمالهم للأغنياء ، وحاش لله ولحكمة دينه من ذلك وعمل الخلف وحده في أمر تعبدي كهذا لا حجة فيه ، على أنهم لم يجمعوا عليه .
فإن قيل إن انتفاع الميت بعمل أولاده ينافي القاعدة التي ذكرتها في الجزاء أيضا فإن من لم يزك نفسه في الدنيا بالإيمان والأعمال الصالحة وما تطبعه في النفس من الصفات والأخلاق الحسنة لا يزكيها عمل أولاده من بعده ، قلنا نعم إن هذا هو الأصل ولكن من بيده أمر الثواب والعقاب استثنى من عموم هذا الأصل ، لا بل ألحق به شيئا لا ينقضه ولا يذهب بحكمته وهو انتفاع بعض الوالدين المؤمنين ببعض عمل أولادهم ، أو جعله منه بالتبع والسببية ، كما أدخل في عمومه انتفاع من سن سنة خير من علم أو عمل من استن بسنته وعمل بعمله أو اقتدى بعمله ، من غير أن ينقص من ثواب هؤلاء وأولئك شيء كما ثبت في حديث الصحيحين ، وروى أصحاب السنن وغيرهم بأسانيد يحتج بها أنه صلى الله عليه وسلم قال"أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وولده من كسبه "{[1097]} وفي رواية"ولد الرجل من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم "{[1098]} وقال صلى الله عليه وسلم لمن ذكر له والده يحتاج إلى ماله"أنت ومالك لأبيك "{[1099]} رواه ابن ماجه بسند صحيح .
وجملة القول إن ثواب الأعمال ليس أعيانا مملوكة للعامل يتصرف فيها كما يشاء بل هو جزاء من فضل الله تعالى وهو نوعان أحدهما:ما يكون مرتبا على تأثير الأعمال في تزكية النفس مباشرة وهو ما بيناه آنفا وثانيهما:ما يترتب على الأعمال التي يتعدى فيها نفع العامل إلى غيره كالسنة الحسنة والصدقة الجارية والعلم الذي ينتفع به والولد الصالح الذي يدعو له أو يقضي دين الله أو الناس أو يتصدق عنه ، وتقدمت الأحاديث الصحيحة في ذلك وهذه تكون بقدر انتفاع الناس من هذه الأعمال لا بحسب تأثير العامل في السببية لها عند مباشرته للسبب ، كتأليف الكتاب وتربية الولد .وفوق ذلك كله مضاعفة الله لمن يشاء بفضله .
خلاف العلماء في المسألة:
الخلاف بين العلماء في المسألة مشهور .وقد ذكره ابن القيم في أول المسألة ال 16 وهي:هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعي الإحياء أم لا ؟ وذكر في الجواب أنها تنتفع من سعي الأحياء في أمرين مجمع عليهما من أهل السنة:أحدهما ما تسبب إليه في حياته والثاني دعاء المسلمين له واستغفارهم له ، قال:والصدقة والحج على نزاع:ما الذي يصل من ثوابه ؟ هل هو ثواب الإنفاق أم ثواب العمل ؟ فعند الجمهور يصل ثواب العمل نفسه وعند بعض الحنفية إنما يصل ثواب الإنفاق .ثم ذكر اختلافهم في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر وزعم أن مذهب أحمد وجمهور السلف وصولها واستدل على مذهب أحمد بأنه قيل له:الرجل يعمل الشيء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه قال أرجو ، وأنت ترى أن الإمام أحمد رحمه الله لم يجزم بالجواب وإن موضوع السؤال انتفاع الوالدين بعمل الولد خاصة ، وليس في رجائه خروج عن النص إلا في مسألة الصلاة ، ثم قال:والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن ذلك لا يصل .وذكر أن بعض أهل البدع من المتكلمين على أنه لا يصل إلى الميت شيء لا دعاء ولا غيره ؟
أقول:راجعت بعد كتابة ما تقدم كتاب الفروع من كتب الحنابلة فرأيت فيه خلافا كثيرا في هذه المسألة عن علماء الحنابلة وغيرهم أحسنه وأولاه باتباع السنة قول شيخ الإسلام قدس الله روحه في بحث إهداء الثواب .وقد ذكر قبله كلاما في عدم جواز الإيثار بالفضائل والدين للوالدين وقول بعضهم بجواز بعضه في حال الحياة كتقديم والده في الصف الأول وكلاما في الفرق بين الإيثار بما أحرزه وما لم يحرزه ثم قال"وقال شيخنا لم يكن من عادة السلف إهداء ذلك إلى موتى المسلمين بل كانوا يدعون لهم فلا ينبغي الخروج عنهم ، ولهذا لم يره شيخنا كمن له أجر العامل كالنبي صلى الله عليه وسلم معلم الخير بخلاف الوالد لأن له أجرا لا كأجر الولد ، لأن العالم يثاب على إهدائه فيكون له مثله أيضا فإن جاز إهداؤه فلهم جرا ، ويتسلسل ثواب العامل الواحد وإن لم يجز فما الفرق بين عمل وعمل ، وإن قيل يحصل ثوابه مرتين للمهدي إليه ولا يبقى للعامل ثواب فلم يشرع الله لأحد أن ينفع غيره في الآخرة ولا ينفعه له في الدارين فيتضرر ( كذا ) ولا يلزم دعاؤه له ونحوه لأنه مكافأة له كمكافأة لغيره ينتفع به المدعو له وللعامل أجر المكافأة وللمدعو له مثله فلن يتضرر ولم يتسلسل ولا يقصد أجره إلا من الله "ا ه .
وذكر أيضا أن أقدم من بلغه أنه أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم علي بن الموفق أحد الشيوخ المشهورين من طبقة أحمد وشيوخ الجنيد ، ثم نقل صاحب الفروع عن تاريخ الحاكم مثل ذلك عن أبي العباس محمد بن إسحاق السراج النيسابوري وقد بينا أن الصحابي إذا انفرد بقول أو عمل لا يعد أحد من المسلمين قوله أو عمله حجة أو يتخذه قدوة فيه فكيف بمن بعد تابع التابعين فكيف إذا كان ذلك مخالفا للنصوص الصريحة في الكتاب والسنة .
وقد ذكر ابن عابدين محرر مذاهب الحنفية هذه المسألة في أواخر تنقيح الفتاوى الحامدية فذكر إجماع العلماء على نفع الدعاء وخلافهم في وصول ثواب القراءة واختيار الوصول والاستدلال عليه بحديث"إذا مات العد انقطع عمله "{[1100]} إلخ وهو لا يدل عليه بإطلاق بل على عدمه كما علمت ، ثم ذكر أن الحافظ ابن حجر سئل عمن قرأ شيئا من القرآن وقال في دعائه:اللهم اجعل ثواب ما قرأته أو مثل ثواب ما قرأته زيادة في شرف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما معنى الزيادة مع كماله صلى الله عليه وسلم ؟ قال فأجاب بقوله:هذا مخترع من متأخري القراء لا أعرف لهم سلفا ولكنه ليس بمحال كما تخيله السائل فقد ذكر في رؤية الكعبة:اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما إلخ فلعل المخترع المذكور قاسه على ذلك وكأنه لحظ أن معنى طلب الزيادة أن تتقبل قراءته فيثيبه عليها وإذا أثيب أحد من الأمة على فعل طاعة من الطاعات كان للذي علمه نظير أجره وللمعلم الأول وهو الشارع صلى الله عليه وسلم جميع ذلك فهذا معنى الزيادة في شرفه وإن كان شرفه مستقرا حاصلا ا ه .
ونقول حسبنا من الحافظ أثابه الله أن هذا مخترع من بعض المتأخرين لم يرد عن أحد من سلف الأمة فهو إمام النقل وحافظ السنة بلا نزاع ، وأما قياس هذا الدعاء على الدعاء بزيادة شرف البيت فهو قياس في أمر تعبدي لا محل له ، وقد يفرق بينهما ، فإن معنى زيادة شرف البيت وتعظيمه حقيقة واقعة بكثرة من يحجه ويعبد الله فيه وزيادة ثواب المعلم المرشد بعمل من أخذ بعلمه وهديه لا يسمى شرفا في اللغة إلا بضرب من التجوز ، على أنه ليس مما نحن بصدده .
ثم قال ابن عابدين:وقد أجاز بعض المتأخرين كالسبكي والبارزي وبعض المتقدمين من الحنابلة كابن عقيل تبعا لعلي بن الموفق وكان في طبقة الجنيد ولأبي العباس محمد بن إسحاق السراج النيسابوري من المتقدمين ، إهداء ثواب القرآن له عليه الصلاة والسلام الذي هو تحصيل الحاصل ، والعز بن عبد السلام من المجيزين ، وقال ابن تيمية:لا يستحب بل هو بدعة وقال ابن قاضي شهبة يمنع وابن العطار ينبغي أن يمنع ، وقال ابن الجزري لا يروى عن السلف ونحن بهم نقتدي ، ثم قال بعضهم بجوازه بل باستحبابه قياسا على ما كان يهدى إليه في حال حياته من الدنيا ولما طلب الدعاء من عمر رضي الله عنه وحث الأمة على الدعاء له بالوسيلة عند الأذان ، ثم قال فإن لم تفعل فقد اتبعت وإن فعلت فقد قيل به ا ه كلام ابن الجزري .
وقال الكمال بن حمزة الحسيني:الأحوط الترك .من كنز الراغبين للبرهان التاجي ملخصا ، فهذا ملخص ما ذكره ابن عابدين وحيا الله مرجحي اتباع السلف من هؤلاء العلماء كلهم وليس هو الأحوط فقط بل المتعين الذي يرد كل ما خالفه ويضرب بأقيسة المخالفين عرض الحائط لا لمخالفتها هدي سلف الأمة فقط بل لظهور بطلانها ومصادمتها للنصوص أيضا ، فإن قياس إهداء العبادات أو ثوابها في الآخرة على إهداء متاع الدنيا قياس مع الفارق والفرق بينهما كالفرق بين العبادة والعادة وبين الدنيا والآخرة ، فكيف وهو مصادم للنص وحسبنا اتباع السلف في فهم القرآن والعمل به .
فكل خير من اتباع من سلف *** وكل شر في ابتداع من خلف
ثم أقول:وقد اضطرب كلام الشوكاني من أئمة فقه الحديث عند الكلام على أحاديث المسألة في مواضع فاغتر بالإطلاق ولكنه اهتدى إلى الصواب فيما كتبه على أحاديث المنتقى في باب ما يهدى من القرب إلى الموتى كلها واردة في تصدق الأولاد عن الوالدين كما تقدم في الصيام والحج قال:
"وأحاديث الباب تدل على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما ويصل إليهما ثوابها فيخصص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى:{ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ( النجم 39 ) ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد وقد ثبت أن ولد الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى التخصيص وأما من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت فيوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها "ثم ذكر خلاف العلماء في المسألة .
هذا وإننا نختم هذا البحث بأحاديث اغتر بها بعض القائلين بانتفاع الموتى بكل ما يعمل لأجلهم أو يهدى إليهم من ثواب غيرهم:
1- حديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم الجريدتين على القبرين اللذين أوحي إليه أن أصحابهما يعذبان .قال بعضهم إنه يستأنس به لانتفاع الموتى بعمل الأحياء ولم يقل إنه يدل على ذلك ونحن نقول إنه لا يقوم دليلا ولا استئناسا فإنه واقعة حال في أمر غيبي غير معقول المعنى والظاهر فيه أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم .
2- حديث ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول:لبيك عن شبرمة .قال"من شبرمة "؟ قال أخ لي أو قريب لي قال"حججت عن نفسك ؟ "قال لا قال"حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة "{[1101]} قال الحافظ في بلوغ المرام:صححه ابن حبان والراجح عند أحمد وقفه وفي عون المعبود:رجح الطحاوي وقفه وقال أحمد رفعه خطأ ، وقال أن المنذر لا يثبت رفعه .
وأقول إن في سنده قتادة عن عزرة ولم ينسب عزرة إلى والد ولا بلد .وقد قال النسائي عن عزرة الذي روى عنه قتادة ليس بالقوي فترجح لهذا أنه عزرة بن تميم لأن قتادة قد انفرد بالرواية عنه كما قال الخطيب:ذكر ذلك في التهذيب وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة عزرة بن عبد الرحمن ، وأما الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه من طريق عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير في قصة شبرمة فوقع عندهما عزرة غير منسوب وجزم البيهقي بأنه عزرة بن يحيى ونقل عن أبي علي النيسابوري أنه قال:روى قتادة أيضا عن عزرة بن ثابت وعن عزرة بن عبد الرحمن وعن هذا فقتادة قد روى عن ثلاثة كل منهم اسمه عزرة فقول النسائي في التمييز ( عزرة الذي روى عنه قتادة ليس بذلك القوي ) لم يتعين في عزرة بن تميم كما ساقه فيه المؤلف فليتفطن لذلك .( قلت ) وعزرة بن يحيى لم أر له ذكرا في تاريخ البخاري ا ه .
ونقول قد تفطنا لما ذكره الحافظ فوجدنا لجرح النسائي له مخرجا وهو أن كلا من عزرة بن ثابت وعزرة بن عبد الرحمن قد وثقا والنسائي ممن وثقوا الأول فتعين أن يكون المجروح غيرهما فهو إما ابن تميم وإما ابن يحيى المجهول فكيف نأخذ بحديث موقوف انفرد به مثل هذين الراويين في مسألة مخالفة لنصوص القرآن الكثيرة .
3- حديث معقل بن يسار"اقرؤوا يس على موتاكم "قال في المنتقى:رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد ولفظه"يس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له واقرءوها على موتاكم "{[1102]} قال الشوكاني في شرحه له:الحديث أخرجه النسائي وابن حيان وصححه وأعله ابن القطان بالاضطراب وبالوقف وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه في السند ، وقال الدارقطني هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث ا ه .
أقول إن اللفظ الأول للحديث لأبي داود والأخير لأحمد فيما يظهر فإن لفظ ابن ماجه"اقرءوها عند موتاكم "يعني يس والنسائي لم يخرجه في سننه بل في عمل اليوم والليلة وابن حبان يتساهل في التصحيح فيُتثبت في تصحيحه وإن لم يوجد نص النقاد في معارضته فيه فكيف إذ صرح جهابذة النقاد بمعارضته والجرح مقدم على التعديل ؟ فكيف إذا كان الحديث الذي صرحوا بعدم صحته مخالفا للآيات الصريحة وما في معناها من الأحاديث الصحيحة ؟ ولكن الذين أخذوا قول بعض العلماء بجواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال لا يميزون بين فضائل الأعمال التي تشملها النصوص العامة وبين ما تدل هذه النصوص على عدم جوازه بل على حظره وكونه بدعة مخالفة لأصول الشريعة ولذلك تجد قراءة سورة يس على القبور قد عم المشارق والمغارب وصار كالسنن الصحيحة المتبعة لما للأنفس من الهوى في ذلك .
ثم إن معنى الحديث على عدم صحته متنا وسندا:القراءة عند الميت أي الذي حضره الموت كما صرح به رواة الحديث ابن حبان وغيره .وصرحوا بأن حكمته سماع ما في السورة من ذكر البعث ولقاء الله تعالى ليكون آخر ما تشتغل به نفس الميت .وقد أورده أبو داود في ( باب القراءة عند الميت ) وابن ماجه في ( باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا احتضر ) وقال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود عند عبارة"على موتاكم "أي الذين حضرهم الموت و لعل الحكمة في قراءتها أن يستأنس المحتضر بما فيها من ذكر الله وأحوال القيامة والبعث .قال الإمام الرازي في التفسير الكبير:الأمر بقراءة يس على من شارف الموت مع ورود قوله صلى الله عليه وسلم"لكل شيء قلب وقلب القرآن يس "{[1103]} إيذان بأن اللسان حينئذ ضعيف القوة وساقط المنة لكن القلب أقبل على الله بكليته فيقرأ عليه ما يزاد به قوة قلبه ويشتد تصديقه بالأصول .فهو إذا عمله ومهمه ، قاله القارئ ا ه .
وأقول إن ابن القيم ذكر هذا الحديث في أوائل كتاب الروح وحقق هذا المعنى الذي قاله علماء المنقول وعلماء المعقول بما أربى به على الفريقين .قال نفعنا الله بعلومه"وفي النسائي وغيره من حديث معقل بن ياسر المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال"اقرءوا يس عند موتاكم "وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله "{[1104]} ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر والأول أظهر لوجوه أحدهما:أنه نظير قوله: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله "الثاني:انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله:{ يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} ( يس 27 ) فيستبشر الروح بذلك فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه ، فإن هذه السورة قلب القرآن ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر ، وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي قال كنا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول وهو في السياق وكان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء وضحك وقال:{ يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} وقضى .
الثالث:إن هذا عمل الناس وعادتهم قديما وحديثا يقرؤون يس عند المحتضر .
الرابع:إن الصحابة لو فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا يس عند موتاكم "قراءتها عند القبر لما أخلوا به وكان ذلك أمرا معتادا مشهورا بينهم .
الخامس:إن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود وأما قراءتها عند قبره فإنه لا يثاب على ذلك لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل وقد انقطع من الميت ا ه .
أقول:هذا التحقيق كاف في بابه ولا ينافيه ما ذكره قبله في قراءة فاتحة البقرة وخاتمتها عند رأس الميت عند دفنه وهو أثر مروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أوصى به ، فإنه في معنى تلقين التوحيد قبل الموت وهو صحيح والتلقين بعد الدفن والحديث فيه ضعيف وإلا فهو باطل ، وقد انفرد بروايته مبشر الحلبي عن عبد الرحمن بن العلاء اللجلاج ولم يرو عن عبد الرحمن أحد غير مبشر هذا ، وغاية ما قالوا فيه أنه مقبول وليس له في دواوين السنة غير حديث واحد عند الترمذي .والصواب أنه لا ينقض قول الإمام أحمد أن القراءة عند القبر بدعة وإنما يخصص عمومه بورود القراءة عن بعضهم عند دفن الميت فقط على ما فيه من الشذوذ .
ومما ذكرناه يعلم سبب اختلاف الحنابلة في المسألة:قال ابن مفلح في كتاب الفروع:فصل:لا تكره القراءة على القبر وفي المقبرة نص عليه ، اختاره أبو بكر والقاضي وجماعة وهو المذهب ( خلافا للشافعي ) وعليه العمل عند مشايخ الحنفية ، فقيل تباح وقيل تستحب ، قال ابن تميم نص عليه كالسلام والذكر والدعاء والاستغفار وعنه لا يكره وقت دفنه ، وعنه يكره ، اختاره عبد الوهاب الوراق وأبو حفص ( وفاقا لأبي حنيفة ومالك ) قال شيخنا نقلها جماعة وهو قول جمهور السلف وعليها قدماء أصحابه ( أي أصحاب أحمد ) ..قال ابن عقيل:أبو حفص يغلب الحظر ( أي كونها حراما ) ثم ههنا ذكر وصية ابن عمر بقراءة فاتحة البقرة وخاتمتها على رأسه عند دفنه التي هي سبب رجوع أحمد عن حظر القراءة مطلقا ، والخلاف في نذر القراءة بناء على هذا الخلاف وقول المروذي بناء على الحظر فيمن نذر أن يقرأ عند قبر أبيه:يكفر عن يمينه ولا يقرأ ثم قال:وعنه ( أي الإمام أحمد ) بدعة لأنه ليس من فعله عليه السلام وفعل أصحابه فعلم أنه محدث وسأله عبد الله ( أي ابنه ) يحمل مصحفا إلى المقبرة فيقرأ فيه عليه ؟ قال بدعة .
قال شيخنا:ولم يقل أحد العلماء المعتبرين أن القراءة عند القبر أفضل ولا رخص في اتخاذه عيدا كاعتياد القراءة عنده في وقت معلوم أو الذكر أو الصيام قال واتخاذ المصاحف عندها ولو للقراءة فيها بدعة ولو نفع الميت لفعله السلف ا ه .ولهؤلاء العلماء الأعلام نصوص في بطلان الوقف على قراءة القرآن عند القبور كبطلانه على ما نهى عنه الشرع من تشييدها والبناء وإيقاد السرج عليها ونحو ذلك من البدع التي صارت عند الجماهير في عداد السنن بل يهتمون لها ما لا يهتمون للفرائض للأهواء الموروثة في ذلك .
وإذ قد علمت أن حديث قراءة يس على الموتى غير صحيح وإن أريد به من حضرهم الموت وأنه لم يصح في هذا الباب حديث قط كما قال المحقق الدارقطني ، فاعلم أن ما اشتهر وعم البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية ولكنه صار بسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو الفرائض المحتمة .
وخلاصة القول إن المسألة من الأمور التعبدية التي يجب فيها الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة وعمل الصدر الأول من السلف الصالح .وقد علمنا أن القاعدة المقررة في نصوص القرآن الصريحة والأحاديث الصحيحة أن الناس لا يجزون في الآخرة إلا بأعمالهم{ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا} ( الانفطار 19 ){ واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا} ( لقمان 32 ) وأن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ أقرب أهل عشيرته إليه بأمر ربه أن"اعملوا لا أغني عنكم من الله شيئا "فقال ذلك لعمه وعمته ولابنته سيدة النساء .وأن مدار النجاة في الآخرة على تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح والثواب ما يثوب ويرجع إلى العامل من تأثير عمله في نفسه إلخ ما تقدم شرحه مع التذكير بالآيات الكثيرة والأحاديث في كل ذلك من الأخبار وقواعد العقائد فلا يدخلها النسخ .
وورد مع ذلك الأمر بالدعاء لأحياء المؤمنين وأمواتهم في صلاة الجنازة وفي غيرها فالدعاء عبادة ثوابها لفاعلها سواء استجيب أم لا ويستحيل شرعا وعقلا استجابة كل دعاء لتناقض الأدعية ولاقتضاء الاستجابة ألا يعاقب فاسق ولا مجرم إلا إذا اتفق وجود أحد لا يدعو له أحد برحمة ولا مغفرة في صلاة ولا غيرها ولا يترتب على ذلك من تعطيل كثير من النصوص أو عدم صدقها .
وورد في الأخبار جواز صدقة الأولاد عن الوالدين ودعائهم لهما وقضاء ما وجب عليهما من صيام أو صدقة أو نسك وقد بينا حكمته مع النصوص فيه .والظاهر من هذا أن الوالدين ينتفعان ببعض عمل أولادهما لأن الشارع ألحقهم بهما فيسقط عنهما ما ينوبان عنهما فيه من أداء دين الله تعالى كديون الناس وينالهما من دعائهم لهما خير ليس هو ثواب الدعاء نفسه .ولكن مدار الجزاء والنجاة على عمل المرء لنفسه لا على عمل أولاده جمعا بين النصوص .
فمن أراد أن يتبع الهدى ويتقي جعل الدين تابعا للهوى ، فليقف عند النصوص الصحيحة ويتبع فيها سيرة السلف الصالح ويعرض عن أقيسة بعض الخلف المروجة للبدع .وإذا زين لك الشيطان أنه يمكنك أن تكون أهدى وأكمل عملا بالدين من الصحابة والتابعين فحاسب نفسك على الفرائض والفضائل المجمع عليها والصحيحة التي يضعف الخلاف فيها ، وانظر أين مكانك منها ، فإن رأيت ولو بعيني العجب والغرور أنك بلغت مد أحدهم أو نصيفه من الكمال فيها ، فعند ذلك تعذر في الزيادة عليها ، وهيهات هيهات لا يدعي ذلك إلا جهول مفتون ، أو من به مس من الجنون ، وأن أكثر المتعبدين بالبدع ، مقصرون في أداء الفرائض أو في المواظبة على السنن ، ومنهم المصرون على الفواحش والمنكرات ، كإصرارهم على ما التزموا في المقابر من العادات ، كاتخاذها أعيادا تشد إليها الرحال ، ويجتمع لديها النساء والرجال والأطفال ، ولا سيما في ليلتي العيدين وأول جمعة من رجب ، وتذبح عندها الذبائح وتطبخ أنواع المآكل فيأكلون ثم يشربون ويبولون ويغوطون ويغلون ويصخبون ويقرأ لهم القرآن من يستأجرون لذلك من العميان ، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ، وإذا كان ما يأتون من القراءة والذكر هنالك من البدع المنكرة وكان بعض المباحات يعد هنالك من الأمور المكروهة أو المحرمة ، فما القول في سائر أفعالهم الظاهرة والباطنة ؟ ولو لم يرد في حظر هذه الاجتماعات في المقابر إلا حديث ابن عباس في السنن الثلاث مرفوعا بسند صحيح"لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج "{[1105]} لكفى ولكن ذلك كله قد صار من قبيل شعائر الدين ، وآيات اليقين توقف له الأوقاف التي يسجلها ويحكم بصحتها قضاة الشرع الجاهلون ويأكل منها أدعياء العلم والعرفان الضالون المضلون ، ولقد كان بعض الصحابة وغيرهم من علماء السلف يتركون بعض السنن أحيانا حتى لا يظن العوام أنها مفروضة بالتزامها تأسيا بالرسول صلى الله عليه وسلم في ترك المواظبة على بعض الفضائل خشية أن تصير من الفرائض ، فخلف من بعدهم خلف قصروا في الفرائض ، وتركوا السنن والشعائر وواظبوا على هذه البدع ، حتى إنهم ليتركون لأجلها الأعياد والجمع ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .