/م161
ولما بين توحيد الألوهية ، انتقل إلى برهانه الأعلى وهو توحيد الربوبية ، بما أمره به تعالى في قوله:{ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} الاستفهام للإنكار والتعجب والمعنى أغير الله خالق الخلق ، وسيدهم ومربيهم بالحق ، اطلب ربا آخر أشركه في عبادتي له بدعائه والتوجه إليه ، أو ذبح النسائك أو نذرها له ، لينفعني أو يمنع الضر عني أو ليقربني إليه زلفى ويشفع لي عنده كما تفعلون بآلهتكم ، والحال أنه تعالى هو رب كل شيء مما عبد ومما لم يعبد فهو الذي خلق الملائكة وخواص البشر كالمسيح والشمس والقمر والكواكب والأصنام المذكرة ببعض الصالحين وصانعيها{ والله خلقكم وما تعملون} ( الصافات 96 ) فإذا كان تعالى هو الخالق المقدر ، وهو السيد المالك المدبر ، وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وفضل بعض المخلوقات على بعض ولكنها بالنسبة إليه على حد سوى ، فكيف أسفه نفسي وأكفر ربي ، بجعل المخلوق المربوب مثلي ربا لي ؟ وقد سبق تقرير هذه المسألة مرارا في تفسير هذه السورة وغيرها ومنه أن جميع المشركين كانوا يقرون بأن معبوداتهم مخلوقة وأن الله رب العالمين هو خالق الخلق أجمعين .إلا أن النصارى يقولون بخلق ناسوت المسيح دون لاهوته إذ اللاهوت عندهم هو الله سبحانه وتعالى عن الحلول في الأجساد والتحول في صور العباد .
{ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هذه الجملة معطوفة على الجملة الحالية قبلها ، لأنها معللة للإنكار ومقررة للتوحيد مثلها ، وهي قاعدة من أصول دين الله تعالى الذي بعث به جميع رسله كما قال في سورة النجم:{ أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ( النجم 36- 39 ) وهي من أعزم أركان الإصلاح للبشر في أفرادهم وجماعاتهم ، لأنها هادمة لأساس الوثنية ، وهادية للبشر إلى ما تتوقف عليه سعادتهم الدنيوية والأخروية ( وهو عملهم ) وقد بينا مرارا أن أساس الوثنية طلب رفع الضر وجلب النفع بقوة من وراء الغيب ، هي عبارة عن وساطة بعض المخلوقات العظيمة الممتازة ببعض الخواص والمزايا بين الناس وبين ربهم ليعطيهم ما يطلبون في الدنيا من ذلك بدون كسب ولا سعي إليه من طريق الأسباب التي جرت بها سنته تعالى في خلقه ، وليحملوا عنهم أوزارهم حتى لا يعاقبهم تعالى بها ، أو يحملوا الباري تعالى على رفعها عنهم وترك عقابهم عليها وعلى إعطائهم نعيم الآخرة وإنقاذهم من عذابها أي على إبطال سنته وتبديلها في أمثالهم ، أو تحويلها عنهم إلى غيرهم ،وإن قال في كتابه:{ ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا} ( فاطر 43 ) .
فمعنى الجملتين:ولا تكسب كل نفس عاملة مكلفة إثما إلا كان عليها جزاؤه دون غيرها ، ولا تحمل نفس فوق حملها حمل نفس ، إنما تحمل وزرها وحده{ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} ( البقرة 286 ) دون ما كسب أو اكتسب غيرها .والوزر في اللغة الحمل الثقيل ووزره يزره حمله يحمله .قال ابن عباس في تفسير الجملتين بحاصل المعنى:لا يحمل أحد ذنب غيره .فالدين قد علمنا أن نجري على ما أودعته الفطرة من أن سعادة الناس وشقاءهم في الدنيا بأعمالهم ، وأن عمل كل نفس يؤثر فيها التأثير الحسن الذي يزكيها إن كان صالحا ، أو التأثير السيئ الذي يدسيها ويفسدها إن كان فاسدا وإن الجزاء في الآخرة مبني على هذا التأثير فلا ينتفع أحد ولا يتضرر بعمل غيره من حيث هو عمل غيره .وأما من كان قدوة صالحة في عمل أو معلما له فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم بقوله وفعله زيادة على انتفاعه بأصل ذلك القول أو الفعل ، ومن كان قدوة سيئة في عمل أو دالا عليه ومغريا به فإن عليه مثل إثم من أفسدهم كذلك ، وكل من هذا وذاك يعد من عمل الهادين والمضلين ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء "{[1087]} رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الملك البجلي والترمذي بلفظ"من سن سنة خير ..ومن سن سنة شر .."{[1088]} وبهذا يعلم أنه لا تعارض بين الآية وما في معناها وبين قوله تعالى في المضلين من الناس{ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} ( النحل 25 ) وقوله فيهم:{ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} ( العنكبوت 13 ) .
ولكن أشكل في هذا الباب حديث: "إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه "{[1089]} رواه الشيخان وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا من عدة طرق وهذا لفظ البخاري في أحد طرقه وليس في سائرها ذكر"ببعض "والمراد به النياحة كما صرح به في بعض الروايات عنه وعن أبيه ، وورد التصريح بعدم المؤاخذة بالبكاء المجرد وقد أوله بعضهم بأنه إنما يعذب بما نيح عليه إذا أوصى أهله به وكان ممن يرضى به ، ويحتمل أن يكون المراد بتعذيب الميت بنواح الحي عليه أنه يشعر ببكائه فيؤلمه ذلك ، لا أن الله تعالى يعذبه به ويؤاخذه عليه والله أعلم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال:توفيت أم عمرو بنت أبان بن عثمان فحضرت الجنازة فسمع ابن عمر بكاء فقال:ألا تنهى هؤلاء عن البكاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه "فأتيت عائشة فذكرت لها ذلك فقالت:والله إنك لتخبرني عن غير كاذب ولا متهم ولكن السمع يخطئ وفي القرآن ما يكفيكم:{ ولا تزر وازرة وزر أخرى} ا ه وكانت عائشة ترد كل ما يروى لها مخالفا للقرآن وتحمل رواية الصادق على خطأ السمع أو سوء الفهم ولكن العلماء قصروا في إعلال الأحاديث بمثل هذا مع أن مخالفة الرواية الآحادية للقطعي كالقرآن من علامة وضع الحديث عندهم .
ومما ينتفع به المرء من عمل غيره من حيث يعد من قبيل عمله لأنه كان سببا له دعاء أولاده له أو حجهم وتصدقهم عنه وقضاؤهم لصومه كما ثبت في الصحاح وهو داخل في حديث"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث:صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له "{[1090]} رواه مسلم وأبو وداود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة وقد ألحق الله ذرية المؤمنين بهم بنص القرآن وصح في الحديث أو ولد الرجل من كسبه{[1091]} ومن قال بانتفاع الميت من كل عمل يعمل له وإن لم يكن العامل ولده فقد خالف القرآن ولا حجة له في الحديث الصحيح ولا القياس الصحيح .أما الحديث فقد صح فيه الإذن بالصدقة عن الوالدين في الصحيحين والسنن وبالصيام والحج المنذورين منهما أو المفروضين من حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما وفيهما من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام فليصم عنه وليه "{[1092]} وقد شبه صلى الله عليه وسلم الصيام والحج الواجبين بقضاء دين العباد عنهما وأن دين الله أحق بأن يقضى .وقد روي هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما بألفاظ مختلفة في السائل فقيل رجل وقيل امرأة من جهينة وهو الصحيح وفي المسؤول عنه فقيل أب وقيل أخت وقيل أم وهو الصحيح وفي المسؤول فيه هل هو الصيام أو الحج ولا تنافي بينهما لجواز الجمع بينهما وتدل عليه رواية لمسلم ، وذكر الراوي وهو ابن عباس لكل منهما في وقت لاقتضاء المقام لذلك ولهذا الخلاف قال بعض العلماء أن الحديث مضطرب لا يحتج به ، ولكن حديث عائشة لا اضطراب فيه .
وقد اختلفوا في الولي فيه فقيل كل قريب وقيل الوارث وقيل العصبة .والراجح المختار أنه الولد لينطبق على الآيات والأحاديث الأخرى .ومن أصولهم أن العبادات البدنية لا تصح النيابة فيها في الحياة ولا بعد الممات .ومذهب أشهر أئمة الفقه أنه لا يصام عن الميت مطلقا ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي والإمام زيد بن علي والهادوية والقاسم من العترة وحصر أحمد وآخرون الجواز بالنذر عملا بحديث ابن عباس ويلزمه أن يكون من يصوم عن الميت ولده لأن الرواية وردت بذلك وما روي في بعض طرقها من ذكر الأخت غلط ظاهر لمخالفته للطريق الصحيح وللآيات والأحاديث وحديث ابن عباس الموقوف أو فتواه التي رواها النسائي بسند صحيح"لا يصل أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد "ومثله عن عائشة .وقد جعل الحنفية فتوى ابن عباس مانعة من العمل بحديثه على مذهبهم في ذلك وهو أن العالم الصحابي لا يخالف روايته إلا إذا كان لديه ما يمنع العمل بها ككونها منسوخة ، ومذهب غيرهم من أهل الأصول والحديث أن الحجة برواية الصحابي لا برأيه فإنه قد يترك العمل بالرواية سهوا أو نسيانا أو تأولا على أنه غير معصوم من تركه عمدا ، وعندنا أنه لا تعارض بين قولي ابن عباس وعائشة وروايتهما لأن قولهما أو فتواهما بأن لا يصلي ولا يصوم أحد عن أحد هو أصل الشريعة العام في جمع الناس إلا ما استثنى بالنص من صيام الولد أو حجه أو صدقته عن والديه ولا سيما إذا كان ذلك حقا ثابتا بأصل الشرع أو بنذر أو إرادة وصية كما كانت الحال في وقائع فتوى النبي صلى الله عليه وسلم لأولئك الأولاد .فلا محل إذا لتخريج الحنفية ولا الجمهور في المسألة وكتاب الله فوق كل شيء .
وأما قياس عمل غير الولد على عمله فباطل ، لمخالفته للنص القطعي على كونه قياسا مع الفارق ، وقد غفل عن هذا من عودونا استدراك مثله على المتقدمين ، كشيخي الإسلام{[1093]} والشوكاني{[1094]} من فقهاء الحديث المستقلين .
فعلم مما شرحناه أن كل ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها إلى الأموات واستئجار القراء وحبس الأوقاف على ذلك بدع غير مشروعة ومثلها ما يسمونه إسقاط الصلاة ولو كان لها أصل في الدين ما جهلها السلف ولو علموها لما أهملوا العمل بها ، وليس هذا من قبيل ما لا شك في جوازه ووقوعه في كل زمن من فتح الله على بعض الناس بما لم يؤثر عمن قبلهم من حكم الدين وأسراره والفهم في كتابه كما قال أمير المؤمنين علي المرتضى كرم الله وجهه:إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن ، بل هو من العبادات العملية التي يهتم الناس بأمرها في كل زمان ولو فعلها الصحابة لتوفرت الدواعي على نقلها بالتواتر أو الاستفاضة .
{ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي ثم إن رجوعكم في الحياة الآخرة التي بعد هذه الحياة الدنيا إلى ربكم وحده دون غيره مما عبدتم من دونه زاعمين أنهم يقربونكم إليه فينبئكم بما كنتم تختلفون فيه من أمر أديانكم إذ كان بعضكم يعبده وحده ، وبعضكم قد اتخذ له أندادا من خلقه ، ويتولى هو جزاءكم عليه وحده بحسب علمه وإرادته القديمتين ويضل عنكم ما كنتم تزعمون من دونه ؛ فكيف تعبدون معه غيره ؟ وقد تقدم مثل هذا في سورة المائدة في سياق اختلاف الشرائع وذكرنا نصه آنفا وفي آل عمران في قصة عيسى:{ إلي مرجعكم فأحكم بينكم فما كنتم فيه تختلفون} ( آل عمران 54 ) ومثله في البقرة بعد ذكر طعن اليهود والنصارى بعضهم ببعض ( 2:112 ) وله نظائر بعضها في الأنباء بالاختلاف أو الحكم فيه وبعضها في الأنباء بالعمل ومنه ما تقدم في هذه السورة ( آية 20و 109 ) وكله إنذار بالجزاء وبيان أنه بيده تعالى وحده .