/م65
ولكن في مقابل جميع المواعظ والإرشادات المنطقية ،والتذكير بنعم الله ومواهبه ،انبرت تلك الثلة من الناس الذين كانوا يرون مكاسبهم المادية في خطر ،وقبول دعوة النّبي تصدّهم عن التمادي في أهوائهم وشهواتهم ،انبرت إلى المعارضة ،وقالوا بصراحة ،: إنّك جئت تدعونا إلى عبادة الله وحده وترك ما كان أسلافنا يعبدون دهراً طويلا ،كلاّ ،لا يمكن هذا بحال ( قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبُدُ آباؤنا ) ؟
لقد كان مستوى تفكير هذه الثّلة منحطاً جدّاًكما تلاحظإلى درجة أنّهم كانوا يستوحشون من عبادة الله وحده ،بينما يعتبرون تعدّد الآلهة والمعبودات مفخرةً من مفاخرهم .
والجدير بالتأمل أنّ دليلهم في هذا المجال لم يكن إلاّ التقليد الأعمى لما كان عليه الآباء والأسلاف ،وإلاّ فكيف يمكن أن يبرروا خضوعهم لقطعات من الصخور والأخشاب ؟!
وفي النهاية ،ولأجل أن يقطعوا أمل هود فيهم تماماً ،ويقولوا كلمتهم الأخيرة قالوا: إذا كان حقاً وواقعاً ما تنذرنا به من العذاب ،فلتبادر به ،أي أنّنا لا نخشى تهديداتك أبداً ( فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) .
وعندما بلغ الحوار إلى هذه النقطة ،وأطلق أُولئك المتعنتون كلمتهم الأخيرة الكاشفة عن رفضهم الكامل لدعوة هود ،وأيس هودهو الآخرمن هدايتهم تماماً ،قال: إذن ما دام الأمر هكذا فسيحلّ عليكم عذاب ربّكم ( قال قد وقع عليكم من ربّكم رجس وغضب ) .
و«الرّجس » في الأصل بمعنى الشيء غير الطاهر ،ويرى بعض المفسّرين أنّ لأصل هذه اللفظة معنى أوسع ،فهو يعني كل شيء يبعث على النفور والتقزز والقرف ،ولهذا يطلقُ على جميع أنواع الخبائث والنجاسات والعقوبات لفظ «الرجس » لأنّ جميع هذه الأُمور توجب نفور الإنسان ،وابتعاده .
وعلى كل حال فإنّ هذه الكلمة في الآية المبحوثة يمكن أن تكون بمعنى العقوبات الإِلهية ،ويكون ذكرها مع جملة «قد وقع » التي هي بصيغة الفعل الماضي إشارة إلى أنّكم قد أصبحتم مستوجبين للعقوبة حتماً وقطعاً ،وأن العذاب سيحل بكم لا محالة .
كما يمكن أن يكون بمعنى النجاسة وتلوث الروح ،يعني أنّكم قد غرقتم في دوّامة الانحراف والفساد إلى درجة أنّ روحكم قد دفنت تحت أوزار كثيفة من النجاسات ،وبذلك استوجبتم غضب الله ،وشملكم سخطه .
ثمّ لأجل أن لا يبقى منطق عبادة الأوثان من دون ردّ أضاف قائلا: ( أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وأباءكم ما نزل الله بها من سلطان ) فهذه بُراء ،وجئتم تجادلونني في عبادتها في حين لم ينزل بذلك أي دليل من جانب الله .
وفي الحقيقة ،أنّ هذه الأصنام لا تملك من الألوهية إلاّ أسماء من دون مسمّيات ،وهي أسماء من نسج خيالكم وخيال أسلافكم ،وإلاّ فهي كومة أحجار وأخشاب لا تختلف عن غيرها من أحجار البراري وأخشاب الغابات .
ثمّ قال: فإذا كان الأمر هكذا فلننتظر جميعاً ،انتظروا أنتم أن تنفعكم أصنامكم ومعبوداتكم وتنصركم ،وأنتظر أنا أن يحلّ بكم غضب الله وعذابه الأليم جزاء تعنتكم ،وسيكشف المستقبل أي واحد من هذين الإنتظارين هو الأقرب إلى الحقيقة والواقع ( فانتظروا إنّي معكم من المنتظرين ) .