هذا من ناحية العطايا المادية ،وأمَّا عن العطايا الروحية فيقول تعالى: ( إلى ربّها ناظرة ) نظرة بعين القلب وعن طريق شهود الباطن ،نظرة تجذبهم إلى الذات الفريدة وإلى ذلك الكمال والجمال المُطْلَقَيْن ،وتهبهم اللذة الروحانية والحال الذي لا يوصف ،إذ أنَّ لحظة منها أفضل من الدنيا وما فيها .والجدير بالذكر أن تقديم ( إلى ربّها ) على ( ناظرة ) تفيد الحصر ،أي ناظرة إلى الله فقط لا إلى غيره .
وإذا قيل إنَّ أهل الجنان ينظرون إلى غير الله تعالى أيضاً ،فإنّنا نقول: إذا نظروا إلى غيره فإنّهم سوف يرون آثار الله فيها ،والنظر إلى الأثر هو نظرٌ إلى المؤثر ،وبعبارة أُخرى أنَّهم يرونه في كلّ مكان .ويرون تجلي قدرته وجلاله وجماله في كل شيء ،ولذا فإنَّ نظرهم إلى نعم الجنان لا يجرهم إلى الغفلة عن النظر إلى ذات الله .
ولهذا السبب ورد في بعض الرّوايات في تفسير هذه الآية: ( إنّهم ينظرون إلى رحمة الله ونعمته وثوابه ){[5608]} لأن النظر إلى ذلك هو بمثابة النظر إلى ذاته المقدّسة .
قال بعض الغافلين: إن هذه الآية تشير إلى شأنه في يوم القيامة ،ويقولون: إنَّ الله سوف يُرى بالعين الظاهرة في يوم القيامة .والحال إنّ مشاهدتهُ بالعين الظاهرة تستلزم جسمانيتهُ .والوجود في المكان ،والكيفية والحالة الخاصّة وجود جسماني ،ونعلم أنَّ ذاتهُ المقدّسة منزَّهة عن مثل هذا الاعتقاد الملوث ،كما اعتمد القرآن هذا المعنى في آياتهِ مرات عديدة ،منها ما في الآية ( 103 ) من سورة الأنعام: ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) وهذه الآية مطلقة لا تختص في الدنيا .
على كل حال فإنّ عدم النظر الحسي إلى الله تعالى أمرٌ واضح لا يحتاج البحث فيه أكثر من هذا ،ويقُرُّ بذلك من لهُ أدنى اطلاع على القرآن والمفاهيم إلا سلامية .
وقال البعض في معنى الناظرة أقوالاً أُخرى مثلاً: ناظرة من مادة الانتظار ،أي أنَّ المؤمنين لا ينتظرون شيئاً إلاّ من الله تعالى ،وحتى أنّهم لا يعتمدون على أعمالهم الصالحة وأنَّهم ينتظرون رحمة الله ونعمته بشكل دائم .
وإذا قيل إنَّ هذا الانتظار سيكون مصحوباً مع نوع من الانزعاج ،والحال أنَّ المؤمن لا شيء يزعجهُ في الجنان ؟فيقال: إنّ ذلك الانتظار المصحوب بالانزعاج هو ما لا يُطمأن عقباه ،أما إذا ما وُجد الاطمئنان .فسيكون مثل هذا الانتظار مصحوباً بالهدوء{[5609]} .
والجمع بين معنى ( النظر ) و( الانتظار ) غير بعيد ،لجواز استعمال اللفظ الواحد في المعاني المتعددة .وإذا كان المراد هو أحد المعنيين ،فإن الأرجح هو المعنى الأوّل .
وننهي هذا الكلام بحديث مسند إلى النّبي ( صلى الله عليه وآله ) إذ قال: «إذا دخل أهل الجنّة الجنّة يقول الله تعالى تريدون شيئاً أزيدكم ؟فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ؟ألم تدخلنا الجنّة وتنجينا من النّار » ؟
قال: « فيكشف الله تعالى الحجاب فما أعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر الى ربّهم » !{[5610]}
والظريف هو ما ورد في حديث عن أَنس بن مالك ،عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: «ينظرون إلى ربّهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة »{[5611]} ،وهذا الحديث تأكيد على المشاهدة الباطنية لا العينية .