التّفسير
الندم الشديد:
رأينا في الآيات السابقة أنّها تحدثت عن بعض عقوبات الظالمين والطواغيت ،وبعض المواهب والنعم والمتعلقة بالصالحين في يوم القيامة ،وتتناول الآيات أعلاه بعض الصفات وحوادث يوم القيامة ،وتشرع بالقول ب ( يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلاّ مَن أذِنَ له الرحمن وقال صواباً ){[5750]} .
وبلا شك فإنّ قيام الروح والملائكة صفّاً يوم القيامة ،وعدم تكلمهم إلاّ بإذنه سبحانه ،إنّما هو مثولاً للأوامر الإلهية وطاعة ،كما هو حالهم قبل قيام القيامة ،فهم بأمره يعملون ولكنّ في يوم القيامة سيتجلّى امتثالهم للّه أكثر وبشكل أوضح .
أمّا عن المقصود بكلمة «الروح » فقد بسط المفسّرون في كتبهم تفاسير كثيرة ،حتى وصل معناها في بعض التفسير إلى ثمانية احتمالات{[5751]} ..وإليك أهم ما قيل فيه:
1هو مخلوق من غير الملائكة وأعظم منها .
2هو أمين الوحي الإلهية جبرائيل أشرف الملائكة .
3هو أرواح أناس يقومون مع الملائكة .
4هو ملك عظيم الشأن ،وأشرف من جميع الملائكة قاطبة ( حتى جبرائيل ): وهو الذي يصاحب الأنبياء والأوصياء( عليهم السلام ) على الدوام .
وقد جاءت كلمة «الروح » في القرآن الكريم بصور شتى ..فتارة تأتي مجرّدة عن أيّة قرينة ،وغالباً ما تأتي في قبال الملائكة ،كقوله تعالى في الآية ( 4 ) من سورة المعارج: ( تعرج الملائكة والروح إليه ) ،وفي الآية ( 4 ) من سورة القدر: ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر ) .
ونلاحظ أنّ ذكر كلمة «الروح » في الآيتين أعلاه قد جاء بعد ذكر «الملائكة » ،في حين جاء ذكرها في الآيات المبحوثة قبل «الملائكة » ...ويمكن حمل هذا التغاير على باب ذكر العام بعد الخاص ،أو ذكر الخاص قبل العام .
وذكرت كذلك كلمة «الروح » مع الإضافة ،أو صيغة الوصف المقارن ك «روح القدس » كما جاء في الآية ( 102 ) من سورة النحل: ( قل نزّله روح القدس من ربّك بالحق ) ،وك «الروح الأمين » كما جاء في الآية ( 193 ) من سورة الشعراء ( نزل به الروح الأمين ) .
وقد أضاف سبحانه وتعالى صفة «الروح » إلى ذاته المقدسة ،كما في الآية ( 29 ) من سورة الحجر: ( ونفخت فيه من روحي ) ،والآية ( 17 ) من سورة مريم: ( فأرسلنا إليها روحنا ) .
وكما هو ظاهر أنّ لكلمة «الروح » في القرآن معان متفاوتة ،وقد تطرقنا لمعانيها حسب ورودها في الآيات .
وأقرب ما يمكن التعويل عليه من معاني «الروح » في الآية المبحوثة هو كونه أحد ملائكة اللّه العظام ،والذي يبدو من بعض الآيات أنّه أعظم من جبرائيل وبدلالة ما روي عن الإمام الصادق( عليه السلام ) قوله: «هو ملك أعظم من جبرائيل ومكائيل »{[5752]} .
وجاء في تفسير علي بن إبراهيم: «الروح ملك أعظم من جبرائيل ومكائيل وكان مع رسول اللّه وهو مع الأئمّة »{[5753]} .
وجاء في تفاسير أهل السنة ،إنّ رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: «الروح جند من جنود اللّه ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيدي وأرجل ،ثمّ قرأ: ( يوم يقوم الروح والملائكة صفّاً ) ،قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند »{[5754]} .
( وقد بحثنا موضوع روح الإنسان وتجردّها واستقلالها بشكل مفصل في ذيل الآية ( 85 ) من سورة الإسراءفراجع ) .
وعلى أيّة حال ،فسواء كان «الروح » من الملائكة أو من غيرهم ،فإنّه سيقف يوم القيامة مع الملائكة صفّاً بانتظار أوامر الخالق سبحانه ،وسيكون هول المحشر بشكل بحيث لا يقوى أيّ من الخلق للتحدث معه ،والذين سيتكلمون أو يشفعون لا يقومون بذلك إلاّ بعد إذنه جلّ شأنه ،وما واقع الكلام إلاّ حمد اللّه وثناؤه أو التشفع لمن هم أهلاً للشفاعة .
وقد روي أنّه حينما سُئِل الإمام الصادق( عليه السلام ) عن هذه الآية ،قال: «نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة والقائلون » .
فقال الراوي: وأيّ شيء تقولون ؟
فقال( عليه السلام ): «نُمجد ربّنا ،ونصلّي على نبيّنا ،ونشفع لشيعتنا ،فلا يردنا ربّنا »{[5755]} .
ونستفيد من هذه الرواية: إنّ الأنبياء والأئمّة( عليهم السلام ) سيقفون صفّاً يوم القيامة مع الملائكة والروح ،وسيكونون من المأذون لهم في الكلام والشفاعة ،وسيكون حديثهم منصبّاً حول الذكر والثناء والتسبيح للباري عزّ وجلّ .
ثمّ إنّ وصف قولهم بكملة «صواباً » للدلالة على أنّهم لا يشفعون إلاّ لمن ملك مقدمات الشفاعة والتي لا تتعارض والحساب{[5756]} .
/خ40