( فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً ) ،حتى يروا عاقبتهم !
نعم ،إنّهم دوماً يكيدون في حربك والحرب ضد دينك .
فتارة بالاستهزاء ..
وأخرى بالحصار الاقتصادي ..
ومرّة بتعذيب المؤمنين ..
وأخرى يقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه كي تنتصروا ..
ويقولون عنك: ساحراً ،كاهناً ،مجنوناً ..
ويمارسون النفاق: بأن يؤمنوا بك صباحاً ويكفروا مساءً ،كي يؤثّروا على البسطاء ..
ويقولون لك: أبعد الفقراء والمستضعفين عنك حتى نتّبعك
وأحياناً يقولون: آمن ببعض آلهتنا حتى نؤمن بك ..
ويكيدون لإبعادك وقتلك ..
والخلاصة: فشغلهم الشاغل هو: التخطيط المستمر لمواجهتك ،لتفريق مَن آمن بك ،والضغط على أصحابك ،أو قتلك لإطفاء نور اللّه بذلك !ولا يعلمون بأنّ اللّه متمُّ نوره ولو كرهوا .
«الكيد »{[5923]}: ضرب من الاحتيال والتغلب على المشكل بتهيئة المقدمات ،وفيه جنبة خفية ،وقد يكون مذموماً وممدوحاً كقوله تعالى: ( كذلك كدنا ليوسف ){[5924]} ،وإن كان يستعمل في المذموم أكثر .
ومراد الآية هو كيد الأعداء كما هو واضح ،وقد تعرضنا لبعض نماذجه أعلاه ،فيما تناولت هذا الموضوع آيات قرآنية كثيرة .
ولكن ..ما المقصود بالكيد الإلهي ؟
قيل: إنّه الإمهال الذي ينتهي بالأخذ الشديد والعذاب الأليم .
وقيل أيضاً: إنّه نفس العذاب الذي ينتظرهم .
والأنسب أن يقال: إنّه تلك الألطاف الإلهية التي غمرت النبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومَن معه من المؤمنين ،وما كان يصيب أعداء الإسلام من فشل مخططاتهم وخيبة مساعيهم .
ويحمل التاريخ الإسلامي بين طياته شواهد كثيرة على هذا المعنى .
وتأمر الآيات النبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم )على الأخصبأن يمهلهم ولا يتعجل على عذابهم ،وأنّ يتمّ الحجّة عليهم ،فعسى أن يعود قسم منهم إلى رشده ويسلم وأساساً فالعجلة لمن يخاف الفوت ،وهذا ما لا يصدق على القاهر القادر سبحانه وتعالى .
والملاحظ في الآية ،إنّها شرعت ب ( فمهّل الكافرين ) فيما أكّدت ذلك بقولها «أمهلهم » ،فالأوّل من باب ( التفعيل ) ،والثّاني من باب ( الأفعال ) وقد جاء للتأكيد دون تكرار اللفظ بعينه .
«رويداً »: من ( الرود )على وزن عودوهو التردد في طلب الشيء يرفق ،ولها هنا معنى مصدرياً مع تصغير ،أي أمهلهم مهلة صغيرة{[5925]} .
وبهذا يوصي اللّه عزّ وجلّ نبيّه الكريم( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذه الجملة المختصرة ثلاث مرات بإمهال ومداراة الكافرين وهذا في الحقيقة درس للمسلمين في الكيفية التي ينبغي العمل بها عند مواجهة أعداءهم ،وخصوصاً إذا ما كانوا أعداءً أقوياء وشرسين ،فلابدّ من الصبر والتأني والدقّة في حساب خطوات المواجهة ،وينبغي عدم التسرع في العمل ،وكذا عدم تنفيذ القرارات غير المدروسة .
مضافاً إلى التبليغ والدعوة إلى الحق لابدّ فيها من تجنب العجلة والتسرّع حتّى تتاح الفرصة لكلّ من يمكن هديه ،فلابدّ من تفهيم الإسلام بكل لطف وسعة صدر مع الدليل القاطع ،وبهذا تتمّ الحجّة على الآخرين .
أمّا السبب في طلب الإمهال القليل ،ففيه احتمالين:
الأوّل: كان الإمهال لحين حدوث معركة بدر ،حيث أحرز المسلمون فيها نصراً مبيناً على الكفار بعد مدّة قليلة من نزول الآية .
ومعركة بدر أوّل ضربة موجعة تلقاها المشركون من المسلمين ،ثمّ تلتها ضربات في معركة الأحزاب ومعركة خيبر وغيرها ،ممّا أفشل مخططات الكفرة لدحر الإسلام .
وحينما وافى عمر النبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الأجل ،كان نور الإسلام قد غطى كلّ أرجاء شبه الجزيرة العربية ،ولم يمض قرن واحد على عمر الرسالة الخاتمة حتى تفيئت معظم أجزاء العالم تحت ظله الآمن .
الثّاني: لأنّ عذاب القيامة سيقع حتماً ،وكلّ حتمي الوقوع قريب .
وعلى أيّة حال ،فقد بدأت السّورة بالقسم بالسماء والنجوم ،وانتهت بتهديد الكافرين والمتآمرين على الحقّ ،وفيما بين البدء والانتهاء ،تعرضت إلى بعض أدلة المعاد بأُسلوب رائع ومؤثر ،وإلى بيان شيّق للرقابة الإلهية على أعمال الإنسان ،بالإضافة إلى ما قدمته من تسلية لترطيب خواطر المؤمنين ،بلسان في غاية اللطف البليغ .