قوله تعالى:{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا} ذلك تنبيه من الله تعالى لبني آدم على كيد إبليس وعداوته وكراهيته لهم ؛فإبليس عدو بني آدم الألد .وهو طيلة الزمان لا يبرح الكيد وسوء التدبير للبشر ليضلهم بأساليبه من الوسوسة والإغواء عن سبيل الله ،وليوقع في الدنيا الخراب والفساد فيشيع الكفر والضلال ويعم الظلم والباطل ؛فتتيه البشرية في العمه والعصيان لتصير في الآخرة إلى الهلاك والخسران .فقال سبحانه منبها مذكرا بحقيقة إبليس: ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) .
أي واذكر حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم .وهو سجود تحية وتكريم وتشريف لا سجود إذعان وعبادة ،فاستجابوا لما أمرهم الله به من السجود له ،طائعين الله منيبين إليه ( إلا إبليس كان من الجن ) استثناء منقطع ؛فإبليس ليس من جنس الملائكة في الأرجح ؛فهم من نور ،وأصل إبليس من نار .فالأصلان مختلفان تمام الاختلاف ،متباينان كامل التباين .وشتان بين النور المضيء الساطع المشعشع ،والنار اللاهبة اللافحة الحارقة .وقد قيل: كان إبليس من قبيلة يقال لها الجن .وقيل غير ذلك من الآثار التي جُلّها من الإسرائيليات مما لا ينبغي الركون إليه أو الاعتداد به .
والصواب أن إبليس من الجن استنادا إلى ظاهر الآية في قوله مبينا حقيقة إبليس ( كان من الجن ) وهذه جملة مستأنفة ،تبين سبب فسق إبليس وهو كونه من الجن وليس من الملائكة .قال الحسن البصري في ذلك: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ،وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل البشر: قوله: ( فسق عن أمر ربه ) فسق من الفسق ،بالكسر وهو الترك لأمر الله تعالى ،والعصيان والخروج عن طريق الحق .أو الفجور .وسميت الفأرة بالفويسقة ؛لخروجها من جحرها على الناس{[2830]} ذلك هو إبليس ؛فإنه بطبعه الخبيث نزّاع لإضلال العباد ،حريص بالغ الحرص على إغوائهم وإفسادهم ليسلكوا سبيل الكفر والباطل فيكونوا شركاءه في جهنم .
قوله: ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوا ) الهمزة ،للإنكار والتعجب ؛أي ،أبعد هذا الإضلال والإغواء والإفساد والكيد من إبليس لكم ،تتخذونه وذريته أعوانا بدلا عني ؛إذ تطيعونه وتعصونني ،وتسلكون سبيله في الشر والغي عوضا عن سبيل الله وهديه ( وهم لكم عدو ) في موضع نصب على الحال ؛أي أتطيعون إبليس مع عداوته القديمة لكم وهو ما يزال يكيد لكم أشد الكيد حتى يطغيكم ويغويكم .أما المراد بذرية إبليس ،فقيل: إنهم يتوالدون كما تتوالد بنو آدم . لكن لا نعلم كيفية التوالد وحصول الذرية .وقيل: المراد بذرية إبليس جنوده وأعوانه من الشياطين .
قوله: ( بئس للظالمين بدلا ) فاعل ( بئس ) مضمر .وتقديره: بئس البدل بدلا للظالمين ذرية إبليس .و ( بدلا ) ،منصوب على التمييز{[2831]} .والمعنى: بئسما استبدلوا بعبادة الله إذا أطاعوا إبليس بدل طاعة الله{[2832]} .