{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} مما لا يتفق مع الحق ،لأن إيماني بك يفرض عليّ أن أريد ما تريده ،وأرفض ما ترفضه في كل شيء ،وأنت المسدّد لي في ذلك كله ،وأنت الهادي إلى طريق الصواب ،فأجرني من الانحراف ،واعصمني من كل ما لا يلتقي مع إرادتك ،{وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي} في ما تعبّر عنه العبوديّة لله من خشوع واستكانة ،تتمثل بطلب المغفرة والرحمة ،وإن لم يكن هناك ذنب ،لأن الكلمة أصبحت تعبيراً عن المضمون الروحي الخاشع أمام الله ،أكثر مما هي تعبير عن مضمونها اللغوي ،{أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} لأن الخسارة العظمى هي فقدان رحمة الله ومغفرته التي تمثل البعد عن مصدر القوّة الذي يمد الإنسان بالثبات والحياة .
بين العصمة والعاطفة النبوية
وقد يتساءل المتسائل عن مدى انسجام هذه الآيات في مدلولها مع عصمة الأنبياء ،فكيف يمكن لنوحالنبيّالذي وقف أمام كل تحديات الانحراف الكافر ،من كل القوى الشرّيرة ،طوال هذا العمر المديد الذي يقارب الألف سنة ،كيف يمكن له أن يعيش لحظة الضعف أمام عاطفة الأبوة ،ليقف بين يدي الله ،طالباً إنقاذ ولده الكافر ،من بين كل الكافرين ،وكيف يخاطبه الله بهذا الأسلوب الذي يقطر توبيخاً وتأنيباً ،ويتراجع نوح مستغفراً طالباً الرحمة كيلا يكون من الخاسرين ؟؟!
ويمكن لنا أن نجيب عن ذلك ،أن المسألة ليست مسألة عاطفة تتمرّد ،ولكنها عاطفة تأمل وتساؤل ،فربما كان نوح يأمل أن يهدي الله ولده في المستقبل ،وربما كان يجد في وعد الله له بإنقاذ أهله ما يدعم هذا الأمل ،لأنه من أهله ،ولم يلتفت إلى كلمة{إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}لأنها لم تكن واضحةً .وهكذا كان منسجماً مع خط الإيمان عندما نادى نداء المتوسل المستفهم ،وكان الرّد الإلهيّ منسجماً مع ما أراده الله له من العصمة ،كأسلوب من أساليب تربية الله لأنبيائه ليمنع عنهم الانحراف العاطفيّ ،قبل حدوثه ،إذا ما كانت الأجواء جاهزةً لذلك ،لولا لطف الله بهم ،وقد تكون الشدّة في الردّ لوناً من ألوان التأكيد على ذلك .
وكان الانسجام النبويّ مع خط التربية الإلهيّ رائعاً في التعبير عن روحية الخضوع والخشوع بالكلمات المستغفرة المسترحمة الخائفة من الخسران ،خشية أن يكون في هذه الحالة المستفهمة المتأمّلة بعضاً من ذنب ،وإن لم يكن ذنباً ،أو بعضاً من تمرُّد ،وإن لم تكن كذلك ،ومن الطبيعي ألاّ يبتعد ذلك عن خطّ النبوّة المستقيم الذي عاش العمر كله جهاداً في سبيل الدعوة إلى الله ،تحت رعاية الله ،ووقف الان في خط الاستقامة محاولاً إخضاع كل عواطفه لروحيتها بتوفيق الله وبرحمته .