/م45
{ قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم} أي إني أعتصم وأحتمي بك من أن أسألك بعد الآن ما ليس لي علم صحيح بأنه جائز لائق{ وإلا تغفر لي} أي وإن لم تغفر لي ذنب هذا السؤال الذي سولته لي رحمتي الأبوية ، وطمعي برحمتك الربانية{ وترحمني} بقبول توبتي الصادقة ورحمتك التي وسعت كل شيء{ أكن من الخاسرين} فيما حاولته من الربح بنجاة أولادي كلهم وسعادتهم بطاعتك وأنت أعلم بهم مني والعبرة في هذه المسألة من وجوه .
أولها:إن سؤال نوح عليه السلام ما سأله لابنه لم يكن معصية لله تعالى خالف فيها أمره أو نهيه ، وإنما كانت خطأ في اجتهاد رأي بنية صالحة ، وإنما عدها الله تعالى ذنبا له لأنها كانت دون مقام العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه ، هبطت بضعفه البشري وما غرس في الفطرة من الرأفة بالأولاد إلى اتباع الظن ، ومثل هذا الاجتهاد لم يعصم منه الأنبياء فيقعون فيه أحيانا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم وتكميله إياهم آنا بعد آن ، بما يصعدون في معارج العرفان .
ثانيهما:إن الإيمان والصلاح لا علاقة له بالوراثة والأنساب ، وقد يختلف باختلاف استعداد الأفراد ، وما يحيط بهم من الأسباب ، وما يكونون عليه من الآراء والأعمال ، ولو كان بالوراثة لكان جميع ولد آدم كأبيهم ، غاية ما يقع منهم معصية تقع عن النسيان وضعف العزم ، وتتبعها التوبة واجتباء الرب ، ثم لكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين نجوا معه في السفينة كلهم مؤمنين صالحين ، والمشهور أن نسل البشر انحصر فيهم ، وقد دلت الآية الآتية على أن فيهم الصالحين وأيد ذلك الواقع ، بل لما كان أحدهم المذكور هنا كافرا هالكا .
ثالثها:إن الله تعالى يجزي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم لا بأنسابهم ، ولا يحابي أحدا منهم لأجل آبائه وأجداده الصالحين وإن كانوا من الأنبياء المرسلين ، وأن من سأله من هؤلاء الآباء ما يخالف سننه في شرعه وحكمته في نظام خلقه ، كان مذنبا يستحق التأديب ، حتى يتوب وينيب .
رابعها:إن هؤلاء المغرورين بأنسابهم من الشرفاء الجاهلين بكتاب ربهم وما يليق بعظمة الربوبية ، وعلو الألوهية ، الجاهلين بسنة نبيهم ، الذين يزعمون أنهم أفضل من العلماء العاملين ، والصالحين المصلحين ، والأغنياء الشاكرين ، والفقراء الصابرين ، وإن كانوا عراة مما كسا الله هؤلاء الأصناف من لباس التقوى والدين ، وأنهم يستحقون سعادة الدنيا والآخرة بنسبهم ، ويستحقها من عظمهم وأفاض عليهم من ماله بمحاباة الله له لأجلهم ، أولئك هم الجاهلون الذين يشهد عليهم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهديه في إنذار عشيرته وأهل بيته ، وكقوله لبنته سيدة نساء العالمين ( يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت ، لا أغني عنك من الله شيئا ){[1758]} رواه الشيخان من حديث طويل .
هؤلاء الجاهلون المساكين يعدون أعدى أعدائهم من يدعوهم أو يدعو الناس إلى كتب الله وسنة رسوله خاتم النبيين ، ويعدون أصدق أصدقائهم المبتدعين الخرافيين المشعوذين .
/خ49