/م45
{ قال يا نوح إنه ليس من أهلك} الذين أمرتك أن تسلكهم في السفينة لإنجائهم ، وفسر هذا النفي وعلله أو وجهه بقوله تعالى:{ إنه عمل غير صالح} قرأ الجمهور"عمل "برفع اللام والتنوين على المبالغة في التشبيه كرجل عدل كأنه لفساده واجتنابه للصلاح والتزامه العمل غير الصالح نفس العمل كما قالت الخنساء في وصف الناقة:
ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت فإنما هي إقبال وإدبار{[1757]}
وقرأ الكسائي ويعقوب بصيغة الفعل الماضي بتقدير عمل عملا غير صالح ، والأول أبلغ والمراد أنه كان كافرا يعمل عمل الكافرين ، والكفر يقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من الأقربين ، ويوجب براءة بعضهم من بعض ، كما قال تعالى:{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم} [ الممتحنة:4] كما أن الإيمان يوجب الولاية بين المؤمنين الأبعدين – بله الأقربين- كما قال عز وجل:{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [ التوبة:71] .
وقيل إن معنى الجملة:إن سؤالك إياي يا نوح عنه وطلبك لنجاته عمل غير صالح لا أرضاه لك رواه ابن جرير عن ابن عباس وما أراه يصح عنه ، وقيل إنه كان ولد زنا أو كان ولد غيره من امرأته وهو ظاهر البطلان لأن الله تعالى سماه ابنه .
فإن قيل:كيف وقع هذا من نوح عليه السلام وقد استثنى الله تعالى من أهله الذين وعده بنجاتهم فقال:{ وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم} [ المؤمنون:27] ولا يعزب عن علمه أن الذين سبق عليهم القول هم الكافرون الذي قضى الله بهلاكهم بعد دعائه عليهم بقوله{ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} [ نوح:26] وكانت امرأته وابنه هذا منهم ، ولا يعقل أن يخفى عليه أمرهما ؟ ولكن امرأته لم تذكر في قصته وإنما ذكرت في سورة التحريم مع امرأة لوط في خيانة زوجيهما ودخولهما النار ، واستثنيت امرأة لوط من النجاة مع المؤمنين في قصته .
قلنا:يحتمل أن يكون حين رأى ابنه بمعزل عن الكفار ، ظن أنه قد بدا له في كفره فكرهه وجنح للإيمان ، ويحتمل أن يكون قد فهم أنه غير داخل في عموم قوله تعالى له:{ إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [ هود:36] لأنه تعالى جعل الناجين قسمين أهله إلا من استثنى ، ومن آمن من قومه ، فجاز في فهمه أن يؤمن من أهله من كان كافرا لأنهم قسيم لقومه لا قسم منهم ، ووافق هذا الفهم وقواه رحمة الأبوة فسأل الله تعالى أن يحققه ، ولما كان هذا اجتهادا ظنيا لا يليق بنبي رسول من أولي العزم أن يخاطب به ربه عاتبه تعالى وأدبه عليه بقوله:
{ فلا تسألن ما ليس لك به علم} أي فلا تسألني في شيء ما من الأشياء ليس لك به علم صحيح أنه حق وصواب ، سمى دعاءه سؤالا لأنه تضمن ذكر الوعد بنجاة أهله وما رتبه عليه من طلب نجاة ولده ، وقرأ ابن كثير تسألن بفتح اللام وتشديد النون المفتوحة ، وابن عامر بتشديدها مكسورة وكذا نافع مع إثبات الياء .وهذا النهي يدل على أنه يشترط في الدعاء أن يكون بما هو جائز في شرع الله وسننه في خلقه ، فلا يجوز سؤال ما هو محرم وما هو مخالف لسنن الله القطعية بما يقتضي تبديلها ولا تحويلها وقلب نظام الكون لأجل الداعي ، ولكن يجوز الدعاء بتسخير الأسباب ، وتوفيق الأقدار للأقدار ، والهداية إلى العلم بالمجهول من السنن والنظام ، مع ما يؤدي إلى ذلك من الأعمال – كما فصلناه من قبل .
{ إني أعظك أن تكون من الجاهلين} أي أنهاك أن تكون من زمرة الجاهلين الذين يسألون أن يبطل تعالى تشريعه أو حكمته وتقديره في خلقه إجابة لشهواتهم وأهوائهم في أنفسهم أو أهليهم ومحبيهم .وأجهل منهم وأضل سبيلا من يسألون بعض الصالحين عندهم ما نهى الله عنه نبيا من أولي العزم من رسله أن يسأله إياه كان هؤلاء الصالحون يعطونهم أو يتوسلون إلى الله أن يعطيهم ما لم يعط مثله لرسله ، بل ما عد طلبه منه ذنبا من ذنوبهم أمرهم بالتوبة منه وعدم العودة إلى مثله كما يدل عليه الوعظ هنا بمعونة قوله تعالى:{ يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين} [ النور:17] وتقدم معنى الوعظ في تفسيره [ 10:57 ج11] .
/خ49