{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} فهل عقلوا معنى هذا القول ؟وهل درسوا عقله وفكره وكلامه وسلوكه ودعوته ،فرأوا اختلالاً في توازن شخصيته ،ليكون لهذا القول مبرراً في الواقع ؟طبعاً لا ،فليس للقول بجنونه أي مبرر ،لأنه يمثل كل القوّة والثبات والتوازن في كل عناصر شخصيته ،ولكن للمسألة سبباً آخر ،هو عقدتهم من مسألة الحق ،والعقلية العنيدة الجامدة التي يملكونها والتي لا تواجه الرأي الآخر في مرتكزاته الفكرية ،أو لا تواجه الطروحات الجديدة الداعية إلى التغيير بروحية البحث عن الحقائق الجديدة التي يفرضها تغير الواقع وتغير معطياته ،لأنهم ليسوا مستعدين لتغيير عاداتهم وتقاليدهم وموروثاتهم العقيدية ،تحت تأثير أيّ وضع ،حتى لو كان الحق واضحاً فيه ..إنه التعصّب للباطل المتحجّر في حياتهم ،الذي يجعلهم يكرهون الحقّ من موقع هذا التعقيد الشعوري ،لا من موقع عدم القناعة به .
ما جاء به الرسول هو الحقّ
{بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ} الواضح المرتكز على الحجّة والبرهان{وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} لأنهم يريدون تأسيس حياتهم على الأهواء والشهوات والأطماع التي تلتقي بالباطل من أقرب طريق ،وليسوا مستعدين لترك ذلك كله ،والالتزام بالخط المستقيم الذي قد يتعب أوضاعهم التي اعتادوها ،ويمنع عنهم ما حصلوا عليه من امتيازات ..
وقد نستوحي من الحديث عن كراهة الأكثرية منهم للحق ،أن القرآن يريد نزع فكرة قداسة الأكثرية من الأذهان ،باعتبارها أساساً للإيمان بالحقائق ،لأن الإيمان يمثل الحركة المضادّة لتيار الشهوات الذي يوافق النفوس ،ولذلك فإن من يتحملون ضربات التيار الذي يواجه خط الإيمان قليلون ،بينما يرتاح للسير مع اندفاع التيار أغلبية الناس ..ولكن ليس معنى ذلك أن الأكثرية تقف دائماً ضد الحق ،بل إن الحق ليس دائماً معها .
وقد نلاحظفي هذا المجالأن الميل إلى معارضة دعاة الحق ليس حالةً تاريخيّةً تعيش في الماضي ،لنتحدث عنها كمصدر للعبرة ،بل هي حالة إنسانية عامّة ممتدّة إلى الحاضر ،حيث نجد أن الدعاة إلى الله ،والعاملين في سبيله ،يعارضون ويُضطهدون ،ويواجَهون بالافتراءات والتهم المتنوعة ،لإعطاء تلك المعارضة تبريراً منطقياً غير موجود في الواقع ،لأن رفض أولئك للحق الذي يدعو إليه الأنبياء والدعاة متأتٍّ عن التزامهم بالباطل ،لذا فإنهم يرفضون دعاته ،سواء أعلنوا موقفهم ذاك بصراحة ،أو حاولوا إخفاءه وراء ما يصنعونه من أقنعة لتغطية الموقف .