{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالاَْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} لأن الخضوع للأهواء يستتبع عدم وجود ضوابط لأيّ شيء على صعيد التكوين والتشريع ،لأنه لن يكون منطلقاً من دراسة العناصر الضرورية التي تضمن للوجود أو للإنسان صلاحه وثباته واستمراره ،لجهة ما تحتويه من أسرار وخصائص وتوازنات في علاقة الأشياء ببعضها البعض ودورها في حركة الإنسان وحياته ،هذه الخصائص التي تجعل لكل شيءٍ هدفاً ودوراً وموقعاً مميّزاً ،وتخلق نوعاً من التكامل بين عناصر الوجود وطبيعة الأشياء ،ولوناً من ألوان التوازن في أوضاع الناس في حياتهم العامة والخاصة ،وفي علاقة الإنسان بالكون والحياة ..
وإذا فَقَد الكون ضوابطه وقوانينه وركائزه فَقَد أيّ مصدر للثبات والامتداد ،وإذا انعدمت في التشريع المصالح والمفاسد التي تحكم الأوامر والنواهي فَقَد التشريع فاعليته القويّة في تنظيم حياة مستقرّة للإنسان ،لأن الأهواء لا تحكمها قاعدة أو قانون ،ما يجعل الكون كله عرضة للاهتزاز وللفساد وللخلل ،وبذلك تفسد السماوات والأرض لو أريد لها أن تتحرك أو تتغير أو تثبت أو تزول تبعاً للأهواء المتنوعة والشهوات المتباينة والأمزجة المتقلّبة ،ويفسد مَنْ فيهن من إنسان وحيوان وغيرهما لو كانت الأنظمة الموضوعة لها بعيدة عن منطق العقل ،وقريبة إلى منطق الهوى والشهوة والانفعال ..
إن المسألةفي مجملهاهي الفرق بين القاعدة واللاقاعدة ،فلا يمكن أن يصلح شيء لا قاعدة له في ساحة الوجود أو التشريع ،وبذلك لا يمكن أن تكون الأهواء أساساً لذلك كله ..ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية ،أن يتجاوز الناس أهواءهم ونوازعهم ،لينظم الوحي حركتهم في الواقع كله ،ويصدم كل مرتكزاتهم الخاطئة ،ويغير كل عاداتهم المتخلفة ،وينسخ كل شرائعهم الباطلة .
{بَلْ آَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ} وهو القرآن الذي يذكّرهم بالحقائق التي تفتح عقولهم على ما غفلوا عنه من عناصر الهدى ،وتذكّرهم ما نسوه من قواعد النجاة والنجاح ..وقد نسب الذكر إليهم ،باعتبار أن هدف حركته في الواقع هو تذكيرهم ،ليكونوا القاعدة الإيمانية للمستقبل ،باعتبارهم أوّل من تحركت الدعوة إليهم بالإسلام في وقت غفلوا فيه عن الحقّ ونسوا قواعد النجاة .{فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} لأنهم يرفضون الانفتاح على كل آيات الله ،ويخافون من سيطرتها الفكرية على أذهانهم ،ما قد يدفعهم إلى تغيير مواقفهم ،والابتعاد بالتالي عمّا ألفوه من مواقع شركهم .