{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ( 71 )} .
الهوى ينبعث من مصدرين:
أولهماالشهوة والسيطرة التي قد تجمح بصاحبها عن مناهج السداد ، وموضع الاستقامة ، والتي تضل معها الأفهام والعقول .
وثانيهماسيطرة الأهواء ، فيتخيل ثم يخال ، وإن هذين الأمرين لا يقوم بهما أمر صالح للبقاء ، فالشهوات نزعات ولا تكون معها إلا لذات وقتية لا تدوم ، بل تنتهي بانتهاء وقتها ، فلذة الخمر تنتهي بانتهاء وقتها ، وكذلك كل لذة جسمية تنفعل بها النفس لا تدوم ، وشهوات الناس مختلفة ، فيكون التضاد بين الناس والتنازع المستمر ، والتناحر القاتل ، كما نرى الآن في أمم أوربا وخاصة أمريكا ، ثم الأوهام من شأنها أن تصور ما ليس واقعا كأنه واقع ، ويتخيل الشخص ، ثم يخال .
هذا هو الهوى ، وأهواء العرب ، كانت انحرافا فكريا أدى إلى استحسان الشر ، وضعفا عقليا أدى إلى اتباع الآباء ولو كانوا لا يعقلون شيئا ، مما أدى إلى تحريم ما أحل الله ، وأدى إلى الطواف عرايا ، للتخلص من نجاسة الثياب المعنوية ، كما توهموا ، وأدى إلى قتل أبنائهم ووأد بناتهم ، وإلى استباحة أكل أموال الناس بالباطل .
هذه هي الأهواء ما كان معروفا منها بعضه عند العرب ، أما الحق فإن مصدره العقل ، والعقل يقوم على ثلاثة أمور:
أولهاالميزان بين الأشياء والأفعال فيتخير أنقاها وأثبتها وأصلحها ، وأكثرها نفعا .
وثانيهاالقسطاس المستقيم الذي يكون ميزان الأشياء ، وحكم الموازنة فيها .
وثالثهاأنه يقدر خير الأمور بأنه ما يكون باقيا ، ولو كان في آجل .
على هذا لا يمكن أن يكون الحق متفقا مع الأهواء ، وخصوصا أهواء العرب التي أشرنا إلى بعضها ؛ ولذا قال تعالى:{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} . أما فساد السموات فلأنها قائمة على تماسك أجرامها بأركان قوية منتظمة لا تتخلف ، ولو كانت خاضعة لأهواء أهل الشرك لتزايلت ؛ لأن أهواء أهل الشرك تفرق المجتمع ، كما كانت الحال بينهم ، وأما الأرض فلأنها تعمر باستنباط خيرها ، وتعرف إصلاحها والغرائز الإنسانية التي تمد النفوس بشهوة الغلب ، وشهوة الجنس ، وشهوة المال ، وشهوة السلطان والتحكم ، وإذا حكمت هذه وأشباهها ، فإن الحاكم يعجل بفنائه ، ولولا رحمة من ربك ببقاء سلطان الحق ولو في الأقوال دون الأفعال ، لآذنت الدنيا بخراب ، قال تعالى في بيان أن الرسل جميعا جاءوا بالحق وميزانه:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 25 )} [ الحديد] .
{ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} بل للإضراب عن توهمهم أن الحق يساير أهواءهم ، وأتيناهم بما بذكرهم الحق ، ويبعدهم عن أهوائهم ويذكرهم بمعنى التذكير ، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي جئناهم بما يذكرهم ، وينبههم إلى خلل تفكيرهم وبعدهم عن الحق وسيطرة أهوائهم{ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} و"الفاء"لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فرتبوا النقيض على نقيضه ، وبنوا إهمال التذكير على التذكير ، وذلك من ضلال العقول ، فرتبوا الإعراض على التذكير . اللهم أكفنا شر ضلال الأهواء