قوله تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض وَمَن فِيهِنَّ} .
اختلف العلماء في المراد بالحق في هذه الآية ،فقال بعضهم: الحق: هو الله تعالى ،ومعلوم أن الحق من أسمائه الحسنى ،كما في قوله تعالى:{وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [ النور:25] وقوله:{ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [ الحج:62] وكون المراد بالحق في الآية: هو الله عزاه القرطبي للأكثرين ،وممن قال به: مجاهد وابن جريح ،وأبو صالح ،والسدي .وروي عن قتادة ،وغيرهم .
وعلى هذا القول فالمعنى لو أجابهم الله إلى تشريع ما أحبوا تشريعه وإرسال من اقترحوا إرسالة ،بأن جعل أمر التشريع وإرسال الرسل ونحو ذلك تابعاً لأهوائهم الفاسدة ،لفسدت السماوات والأرض ،ومن فيهن ،لأن أهواءهم الفاسدة وشهواتهم الباطلة ،لا يمكن أن تقوم عليها السماء والأرض وذلك لفساد أهوائهم ،واختلافها .فالأهواء الفاسدة المختلفة لا يمكن أن يقوم عليها نظام السماء والأرض ومن فيهن ،بل لو كانت هي المتبعة لفسد الجميع .
ومن الآيات الدالة على أن أهواءهم لا تصلح ،لأن تكون متبعة قوله تعالى:{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [ الزخرف:31] لأن القرآن لو أنزل على أحد الرجلين المذكورين ،وهو كافر يعبد الأوثان فلا فساد أعظم من ذلك .وقد رد الله عليهم بقوله:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [ الزخرف:32] وقال تعالى:{قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا} [ الإسراء:100] وقال تعالى:{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} [ النساء:53] قال ابن كثير رحمه الله: ففي هذا كله تبيين عجز العباد ،واختلاف آرائهم وأهوائهم ،وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه سبحانه وتعالى علواً كبيراً .
ومما يوضح أن الحق لو اتبع الأهواء الفاسدة المختلفة لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [ الأنبياء:22] فسبحان الله رب العرش عما يصفون .
القول الثاني: أن المراد بالحق في الآية: الحق الذي هو ضد الباطل المذكور في قوله قبله:{وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} وهذا القول الأخير اختاره ابن عطية ،وأنكر الأول .
وعلى هذا القول فالمعنى: أنه لو فرض كون الحق متبعاً لأهوائهم ،التي هي الشرك بالله ،وادعاء الأولاد ،والأنداد له ونحو ذلك: لفسد كل شيء لأن هذا الغرض يصير به الحق ،هو أبطل الباطل ،ولا يمكن أن يقوم نظام السماء والأرض على شيء ،هو أبطل الباطل ،لأن استقامة نظام هذا العالم لا تمكن إلا بقدرة وإرادة إله هو الحق منفرد بالتشريع ،والأمر والنهي كما لا يخفى على عاقل والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى:{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} .
اختلف العلماء في الذكر في الآية فمنهم من قال: ذكرهم: فَخْرُهُمْ ،وشَرَفُهُمْ ،لأن نزول هذا الكتاب على رجل منهم فيه لهم أكبر الفخر والشرف ،وعلى هذا ،فالآية كقوله:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [ الزخرف:44] على تفسير الذكر بالفخر والشرف ،وقال بعضهم: الذكر في الآية: الوعظ والتوصية ،وعليه فالآية كقوله:{ذالِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [ آل عمران:58] وقال بعضهم: الذكر هو ما كانوا يتمنونه في قوله:{لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الاٌّوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [ الصافات:168-169] وعليه ،فالآية كقوله تعالى:{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمم} [ فاطر:42] وعلى هذا القول فقوله:{فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [ فاطر:42] كقوله هنا ،فهم عن ذكرهم معرضون .وكقوله:{أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ} [ الأنعام:157] والآيات بمثل هذا على القول الأخير كثيرة والعلم عند الله تعالى .