{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} فلم يكن اتخاذكم لها منطلقاً من قناعةٍ فكريّةٍ مبنيّةٍ على حجّة عقلية ،بل كان منطلقاً من علاقات المودّة القائمة بينكم في الحياة الدنيا ،من خلال القرابة أو الصداقة أو المصلحة ،ما يجعل للإلفة دورها الكبير ،وللعاطفة أهميتها العليا في تكوين العقائد والعادات والتقاليد ،ثم تتسع المسألة ،فتتحول إلى عقيدةٍ عامّة للأمة .وهذا ما عبرت عنه الآيات القرآنية التي ناقشت تقديس عقائد الاباء والأجداد ،وذلك في ما حدثنا الله به عن إبراهيم في قوله تعالى:{قَالُوا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [ الأنبياء:53] ،وفي قوله تعالى:{أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [ الشعراء:73 74] .
ولعلّ هذا هو الذي جعل الكثير من الأمم تعتز بتراثها القومي على أساس طبيعة الارتباط العاطفي بالأرض واللغة المشتركة التي ينتمي إليها هؤلاء ،بحيث يكون لذلك أثر كبير في تقديس المضمون التراثي بعيداً عما إذا كان حقاً أو باطلاً .
وهكذا أراد إبراهيم أن يؤكد لهم الأساس اللاّعقلاني الذي لا يملك أيّ ثبات في حركة الحقيقة ،في ما يركزون عليه عقيدتهم وعبادتهم ،ليدعوهم إلى تحكيم العقل في ذلك ،لأن العقيدة القائمة على المودّة سوف تتبدّل نتائجها إذا تبدلت المودّة وتحوّلت إلى عداوة ،ما يجعل كل فريق يلقي المسؤولية على الفريق الآخر .
الكفار يكفر بعضهم ببعض
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} عندما يكفر بكم هؤلاء الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله ،ويتبرأون منكم ،كما قال الله سبحانه:{كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [ مريم:82] ،وقوله تعالى{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [ فاطر:14] ،{وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} فتتراشقون باللعن في النار كما قال سبحانه:{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [ الأعراف:38] .
{وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} لأن ذلك هو الجزاء الإلهي للناس الذين لا يملكون حجةً على العقيدة وعلى العمل ،بل كانت الحجة لله عليهم .
ويبقى للدار الآخرة في جحيمها ونعيمها دورها الكبير في إثارة الإحساس الإنساني بالخوف من المصير الذي يدفعه إلى الخروج من أجواء اللامبالاة التي تجمّد إحساسه بالمسؤولية ،فتمنعه من الانفتاح على الرسالة والرسول