وفي ضوء هذا التفسير ،فإنَّ هابيل لم ينطلق من إرادة الاستسلام لأخيه ليقع أخوه في الإثم الَّذي يعرضه لدخول النَّار ،لأنَّ ذلك يشفي غيظه منه حتَّى لو كان ذلك على حساب حياته ،بل انطلق من المبدأ في رفض إقدامه على الاعتداء عليه الَّذي يجعل القضيّة في ساحة حركة قابيل الَّذي سوف يرجع بإثم أخيه وإثمه هو إذا بقي على عزمه في قتل أخيه ،فلم تكن الإرادة لدى هابيل في موقع الإيجاب ،لأنَّه ليس بالإنسان المعقّد الَّذي يُفكِر بتحريض أخيه على قتله ليلاقي جزاء عمله ،فذلك ما لا يمكن أن يفكر به عاقل فضلاً عن المؤمن الواعي ،بل كانت الإرادة من موقع السلب بمعنى عدم إرادة قتله لقابيل ما يجعل المبادرة في اختيار أخيه .
ولم تكن المسألة استسلاماً ،لأنَّ الآية لا توحي بأنَّ حركة القتل كانت سريعة بحيث بادر قابيل إلى قتل هابيل غدراً ،بل الظاهر من الآية التالية أنَّ القضيّة أخذت وقتاًطويلاً أو قصيراًمن التفكير حتَّى قادته نفسه الأمارة بالسوء إلى القيام بالجريمة في غفلةٍ من هابيل .هذا في جانب ،وفي جانب آخر ،فإنَّه ليس في كلام هابيل لأخيه قابيل ما يفيد الاستسلام ،سواء لنيّة أو فعل القتل لديه ،فهو لم يقل له إنَّك إن أردت قتلي سأسهّل عليك الأمر وأضع نفسي في تصرفك ،بحيث لا أدافع عن نفسي ،ولا أتّقي القتل ،وإنَّما قال: «ما كنت لأقتلك ..» كما لم يقل: إني أرغب بأن تقتلني لتكون من الظالمين ،لأنَّ هذا من قبيل التسبيب بضلال الآخر وشقائه ،وهو من الظلم والضلال سواء في ناموس الفطرة ،أو في أحكام الشرع ،وإنَّما قال:{إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} ذلك على تقدير بسطك يدك لي لتقتلني .فحصيلة تقدير الأمر هنا هو دورانه بين أن يقوم هابيل بقتل أخيه فيكون هو الظالم الحامل للإثم الداخل في النَّار ،أو يقتله أخوه فيكون هذا مصيره ..فمع دوران الأمر بين هذين الاختيارين ،كان اختيار هابيل أن يكون مقتولاً على أن يكون قاتلاً مأثوماً ظالماً داخلاً في النَّار .
وفي مطلق الأحوال لقد كان الحوار بينهما يتحرك في دائرة الحادثة القربانيّة على مستوى تهديد هذا بقتله ورفض ذاك القيام برد الفعل في هذا الاتجاه ،ما جعل الحديث عن الإثم في القتل أمراً طبيعياً في أسلوب الحوار .