مناسبة النزول
قال الكليني: نزلت في النضر بن الحارث ورؤساء قريش ،كانوا يقولون: يا محمد ،ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم ،فنزلت هذه الآية:{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} .
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} فليس لديَّ أيّ شك أو ريب ،لأن الحقيقة تفرض نفسها في فكري وقلبي وشعوري ،كما تشرق الشمس في الفضاء في رأد الضحى ..فكيف يترك الإنسان وهج الحقيقة إلى ظلام الباطل ؟
{وَكَذَّبْتُم بِهِ} من دون برهان ،ولذلك لم تستطيعوا إثارة أيّة فكرةٍ علميّةٍ مضادةٍ ،ولم تستطيعوا مناقشة أيّ دليلٍ للإيمان ،بل كل ما فعلتموه هو إطلاق كلمة التحدي ،بأنه إذا كان هذا هو الحق من عندك فأرسل لنا العذاب ،وأمطر علينا الحجارة من السماء ،وهذا هو شأن الضعفاء المهزومين الذين لا يملكون قوّة المواجهة الفكرية ،الحجة بالحجة ،والوجدان بالوجدان ،وهم يعلمون أن قضايا العذاب ليست بيد الرسل والأنبياء ،وليس هذا هو دورهم ،فلم يمنحهم اللهسبحانهإمكانات التصرّف في الكون بالطريقة التي تحلو لهم ،أو تُطلب منهم ،بل كل ما هناك أن الله كلفهم إبلاغ رسالته ،وإقامة الحجة على الناس ،ليهلك من هلك عن بينة ،ويحيى من حيي عن بيّنة ..وهذا هو كل شيء ..أما إنزال العذاب فهو شأنه ،فإذا شاء أن يعذّب فله ذلك ،وإذا شاء أن يعفو فله ذلك ،لأن الحكم له في جميع الأمور ،ما دامت الحياة ملكه ..وما دامت الخلائق طوع إرادته ..{مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ} في كل الأشياء ..فهو الذي يحدّد مواقع الرحمة والنقمة ،{يَقُصُّ الْحَقَّ} ليبيّنه للناس فتقوم الحجة عليهم من خلاله ،{وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} في ما يفصل به بين الحق والباطل ،والخير والشرّ ،والكفر والإيمان .
وهناك عدة ملاحظات في بعض المفردات الواردة في هذه الآيات .
إن الحكم إلاّ لله
1وردت كلمة «الحكم لله » في نطاق الردّ على الكافرين الذين يستعجلون العذاب لينزله الرسول عليهم بأسلوب التحدي ،فكان الجواب: إن الحكم في القضايا الكونية مما ينزل من العذاب أو من الخير لله ،لأنه هو الذي يملك الكون كله والإنسان كله ،فليس لأحدحتى الرسولأن يتصرف في أيّ شأن من شؤونه إلا بإذن الله ،بما يمنحه من القدرة المحدودة هنا أو هناك ،أو بما يجريه على يديه من كرامات ومعجزات تبعاً لحاجة الرسالة إلى ذلك في رد التحدي أو إثبات نبوة النبي .
وربما التقت هذه الكلمة بكلمة{بِإِذْنِ اللَّهِ} [ ال عمران: 49] التي وردت في كلام عيسى المسيح( ع ) في حديث عن قدرته على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ،وقد ربط ذلك بإذن الله للإيحاء بأنه لا يملك هذه القدرة في ذاته من خلال الإمكانات الطبيعية المودعة فيه ،بل إن الله هو الذي يجري ذلك على يديه ،ليكون نفخه في الطين سبباً للحياة في قبضة الطين ،وليكون لمسه للميت سبباً في عودته للحياة ،ومسّه للأبرص وللأكمه وسيلة للشفاء ...فالله هو الذي يخلق الطير ويحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ،ولكنه يجري ذلك على يد عيسى ،فيجعل لحركته شيئاً من حيوية الحياة والشفاء .
وربما تتحرك كلمة «إذن الله » لتوحي بأن الله يأذن للأشياء التي يستعملها النبي في إظهار المعجزة لتنتهي بالمسألة إلى ما يريده الله ،ليبدو للناظر كما لو كان النبي هو الذي يفعل ذلك .
ولا بد من الإشارة هنا إلى سوء استغلال الخوارج لفهمهم المغلوط لقوله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ} حيث اتخذوها ذريعة لاتهام أمير المؤمنين( ع ) بالانحراف عن خط الله بما يقترب أو يلامس التكفير من خلال قبوله التحكيم في النزاع بينه وبين معاوية في واقعة صفين ،لأنه لا يجوز تحكيم الرجال في دين الله لأن الحكم لله ،فهو وحده الذي يحكم لا الناس .
ولم ينتبهوا إلى أن نسبة الحكم لله على نحو الاختصاص يعنيفي مضمونه الفكريأن الله هو وحده المشرّع الذي يشرّع الأحكام ويقنّن القوانين وليس لغيره الحق في ذلك كله .
أما مسألة التحكيم بين الناس في ما اختلفوا فيه من خلال اكتشاف الأمور المتنازع عليها لمعرفة الحق من الباطل في هذا أو ذاك ،وإيكال الأمر للحكمين ليحكما في هذا الموضوع أو ذاك حسب رؤيتهما للواقع وفهمهما له ،فلا علاقة لها بتحكيم الرجال في دين الله ،لأنهما ليسا حَكَمين في حكم الله بل في موضوع الحكم .
وإذا كان هناك نقد منهم لشخصية الحَكَمين ،وهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص ،فإن الإمام عليّاً( ع ) كان أوّل المعترضين عليهما ،وقيل: إنه كان قد أراد أن يقيم عبد الله بن عباسالقوي الحجّةمن قبله ،ولكن الضغوط القاسية التي ضغطت عليه جعلت الأمر يدور بين القبول بذلك ،أو الفتنة التي قد تأكل الأخضر واليابس وتدمّر كل الواقع الذي يعيش حول أمير المؤمنين( ع ) مما قد تكون المصلحة الأهم في الأمر هو القبول تفادياً للفتنة الكبرى .
قال الإمام علي( ع ) في التعليق على قضية التحكيم:"إنا لم نحكِّم الرجال ،وإنما حكّمنا القرآن .هذا القرآن إنما هو خطٌّ مستور بين الدفّتين ،لا ينطق بلسان ،ولا بد له من ترجمان ،وإنما ينطق عنه الرجال .ولما دعانا القوم إلى أن نحكِّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله سبحانه وتعالى ،وقد قال الله سبحانه:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [ النساء:59] فردّه إلى الله أن نحكم بكتابه ،وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته ،فإذا حُكِم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس به ،وإن حُكِم بسنّة رسول الله( ص ) ،فنحن أحق الناس به وأولاهم بها .
وأما قولكم: لِمَ جعلت بينك وبينهم أجلاً في التحكيم ؟فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل ،ويتثبّت العالم ،ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة ولا تؤخذ بأكظامها فتعجل عن تبين الحق ،وتنقاد لأول الغيّ .
وقد ناقش الفكرة في مجال آخر على أساس مستوى الشعار في حركة المضمون الحق في اتجاه الباطل ،قال( ع ) في الخوارج لما سمع قولهم: «لا حكم إلاّ الله » كلمة حق يراد بها باطل .نعم إنه لا حكم إلا لله ،ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله ،وإنه لا بد للناس من أميرٍ بَرٍّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ،ويستمتع فيها الكافر ،ويبلغ الله فيها الأجل ،ويجمَع به الفيء ،ويقاتَل به العدو ،وتأمن به السُّبل ،ويؤخذ به للضعيف من القويّ ،حتى يستريح برّ ،ويستراح من فاجر ".
وفي روايةٍ أخرى أنه( ع ) لما سمع تحكيمهم قال: حُكم الله أنتظر فيكم .
وقال:"أما الإمرة البرّة فيعمل فيها التقيُّ ،وأما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقيّ ،إلى أن تنقطع مدته ،وتدركه منيّته ".
وهكذا نرى أنه يتحدث عن الشعار الصحيح الذي تلتقي فيه النظرية بالتطبيق ،فاللهوحدههو الحاكم الذي يرجع الجميع إليه في تشريعه ،فلا حكم لغيره ولا حاكم غيره ،ولكن مسألة الإمرة التي تمثل القوة التنفيذية لإدارة شؤون الحياة والناس ،هي مسألة لا بد من أن تتصل بالإنسان في حركة الإدارة والإمرة في حياة الناس من خلاله ،بما يملكه من وعي الواقع واستقامة السلوك والخبرة في إدارة الأمور .
ولكن يبقى العنوان الكبير «كلمة حق يراد بها باطل » يفرض نفسه على واقع كل الذين يحركون الشعارات الدينية والسياسية ليجتذبوا الناس إلى ما يريدون تحقيقه من أغراض سيئة بهدف الإثارة الشعبية غير المسؤولة ،كما نلاحظه في كل زمانٍ ومكان في حركة الصراع بين الحق والباطل ،حيث نرى أهل الباطل يستخدمون كلمات الحق التي يتجمع الناس حولها وينفتحون عليها من أجل الوصول بهم إلى ما يريدونه من الغايات الشريرة التي تقف في نهاية الطريق من حيث لا يشعرون ولا يعلمون .