{ قل إني على بينة من ربي} أي قل لهم أيها الرسول أيضا إني فيما أخالفكم فيه على بينة من ربي هداني إليها بالوحي والعقل ، والبينة كل ما يتبين به الحق ، من الحجج والدلائل العقلية ، والشواهد والآيات الحسية ، ومنه تسمية شهادة الشهود بينة ، والقرآن بينة مشتملة على أنواع كثيرة من البينات العقلية والكونية فهو على كونه من عند الله تعالى للقطع- بعجز الرسول كغيره عن الإتيان بمثله- مؤيد بالحجج والبينات المثبتة لما فيه من قواعد العقائد وأصول الهداية .
{ وكذبتم به} أي والحال أنكم كذبتم به أي بالقرآن الذي هو بينتي من ربي ، فكيف تكذبون أنتم ببينة البينات ، على أظهر الحقائق وأبين الهدايات ، ثم تطمعون أن اتبعكم على ضلال مبين ، لا بينة لكم عليه إلا محض التقليد ، وما كان التقليد بينة من البينات ، وإنما هو براءة من الاستدلال ، ورضاء بجهل الآباء والأجداد ؟ فالكلام حجة مسكتة مبكتة على ما قبلها من نفي عبادته صلى الله عليه وسلم للذين يدعونهم من دون الله ، وقيل إن المعنى وكذبتم بربي أي بآياته أو بدينه ، وإلا فإن القوم كانوا يؤمنون بأن الله هو ربهم ورب السموات والأرض وما بينهما والقرآن ناطق بذلك ، وفسر بعضهم التكذيب بالرب باتخاذ شريك له ، ولم يكن اتخاذهم الشركاء تكذيبا بالربوبية إذ لم يكونوا يقولون إن غيره تعالى يخلق معه أو يرزق ، وإنما كانوا يدعون غيره ليقربهم إليه ويشفع لهم عنده ، وهذا الدعاء عبادة وشرك بالإلهية ، لا تكذيب بالربوبية .
ولما ذكر بينته وتكذيبهم به قفى عليه برد شبهة تخطر عند ذلك بالبال ، ومن شأنها أن يقع عنها منهم السؤال ، وهي أن القرآن أنذرهم عذابا يحل بهم ، إذا أصروا على عنادهم وكفرهم ، ووعد بأن ينصر رسوله عليهم ، وقد استعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فكان عدم وقوعه شبهة لهم على صدق القرآن ، لجهلهم بسنن الله تعالى في شؤون الإنسان فأمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم{ ما عندي ما تستعجلون به} أي ليس عندي ما تطلبون أن يجعل الله لكم من وعيده ، ولم أقل لكم إن الله فوض أمره إلي حتى تطالبوني به وتعدون عدم إيقاعه حجة على تكذيبه .{ إن الحكم إلا لله} أي ما الحكم في ذلك وفي غيره من التصرف في شؤون الأمم إلا لله وحده ، وله في ذلك سنن حكيمة ومقادير منتظمة تجري عليها أفعاله ، وآجال مسماة تقع فيها فلا يتقدم شيء عن أجله ولا يتأخر{ وكل شيء عنده بمقدار} [ الرعد:8]{ ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} [ النحل:61] .
{ يقص الحق وهو خير الفاصلين ( 57 )} قرأ ابن كثير ونافع وعاصم » يقص » من القصص وهو ذكر الخبر أو تتبع الأثر ، أي يقص على رسوله القصص الحق في جميع أخباره ووعده ووعيده ، أو يتبع الحق ويصيبه في أقواله وأفعاله التي يتصرف بها في عباده ، وقرأه الباقون » يقض » من القضاء وأصله يقضي بالياء فحذفت الياء في الخط كما حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين ، ولما كانت المصاحف غير منقوطة كانت الكلمة في المصحف الإمام هكذا ( يقص ) فاحتملت القراءتين ، وحذف حرف المد معهود في المصحف ومنه{ وما تغني الآيات والنذر} [ يونس:101]{ سندع الزبانية} [ العلق:18] ومعناه يقضي قي أمركم وغيره القضاء الحق ، أو ينفذ الأمر ويفصله بالحق ، وهو خير الفاصلين في كل أمر ، لأنه الحكم العدل ، المحيط علمه والنافذ حكمه في كل شيء .وتقدم تحقيق معنى القضاء في تفسير الآية الثانية من هذه السورة .