/م4
المفردات:
السكينة: الطمأنينة والثبات والسكون والرضا .
إيمانا مع إيمانهم: يقينا مع يقينهم .
جنود السماوات والأرض: الأسباب السماوية والأرضية .
التفسير:
4-{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} .
كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع المسلمين من المدينة إلى مكة لأداء مناسك العمرة ،ومعهم السيوف في قرابها ،وقد وقفت قريش في طريقهم ومنعتهم من دخول مكة ،واحتبست عثمان بن عفان ،وأشيع بين المسلمين أنه قد قتل ،فتغير الموقف ،لقد خرجوا لأداء العمرة والنسك والعبادة ،ثم تغير الموقف إلى المناجزة والحرب والقتال ،وفي هذه الحالة تمت بيعة المسلمين جميعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة الرضوان ،بايعوا على الموت وعلى ألا يفروا ،بعد أن أشيع أن عثمان بن عفان قد قتل ،عندئذ قال صلى الله عليه وسلم: ( لا نبرح حتى نناجز القوم )8 .
فقد بدأوا بالعدوان وصد المسلمين عن البيت الحرام ،وقتل عثمان كما أشيع ،عندئذ كان المؤمنون على مستوى المعركة ،تجيش قلوبهم بالإيمان ،وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ،ومعرفة أن الحكمة في فعله صلى الله عليه وسلم ،وكانوا على قلب رجل واحد ،وحكى القرآن الكريم ذلك الموقف حين قال تعالى:{لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} .( الفتح: 18 ) .
لقد اطلع الله على هذه القلوب وهي تتحرك إلى البيعة والفداء والتضحية عند بيعة الشجرة ،ثم يظهر للجميع أن عثمان لم يقتل ،ويرغب أهل مكة في الصلح ،ويرسلون عددا من الرسل ،ويتم الأمر بعقد صلح بين أهل مكة يمثلهم سهيل بن عمرو ،وبين المسلمين ويمثلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان كبار المسلمين متحفزين مع جميع المسلمين للقتال والدفاع ،ثم عقدت معاهدة الصلح ،وإيقاف القتال عشر سنين ،على أن يعود المسلمون جميعا هذا العام بدون أداء العمرة ،وأن يأتوا في العام القادم لأداء عمرة القضاء ،وفي أعقاب المعاهدة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بذبح الهدى ،فلم يبادروا إلى الذبح ،فكرر الأمر ثلاث مرات فلم يمتثلوا ،ودخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وقال لها: ( هلك المسلمون ،أمرتهم بذبح الهدي فلم يفعلوا ) ،فقالت أم سلمة: يا رسول الله ،التمس لهم بعض العذر ،فهم قدموا من أجل العمرة وزيارة مكة ،والطواف بالبيت ،والسعي بين الصفا والمروة ،ثم ذبح الهدي بمكة ،وقد أحصروا ومنعوا من دخول مكة ،ومن أداء العمرة ،فهم في موقف صعب ،ثم قالت أم سلمة: يا رسول الله ،اخرج ولا تكلم أحدا ،واعمد إلى هديك فاذبحه بيدك ،فإن المسلمين سيتسابقون إلى الاقتداء بك ،وبالفعل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكلم أحدا ،وذبح الهدي علنا جهرا أمام المسلمين ،فتسابقوا بسرعة وقوة إلى ذبح الهدي والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ،وازداد يقينهم بأن الرسول الأمين مؤيد بمعونة الله ،وأن الله ناصره ،وأن طاعة الرسول واجبة .
ويكون معنى الآية ما يأتي:
إن الله تعالى الذي من على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالفتح والمغفرة والنصر ،هو الذي أنزل السكينة والأمان والاطمئنان واليقين والرضا في قلوب المؤمنين عند بيعة الرضوان ،استعدادا للحرب ،فلما تبين أن عثمان لم يقتل ،ورغب أهل مكة في الصلح ،وتم صلح الحديبية بعد مناقشات متعددة ،ورضي الرسول صلى الله عليه وسلم عن المعاهدة وقَبِلها ،ألقى الله السكينة والاطمئنان في قلوب المؤمنين ،بأن ما عمله الرسول هو الأسلم والأحكم ،وأن في هذا العمل أمانا للإسلام وللمسلمين ،فازدادوا يقينا مع يقينهم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم .
{ولله جنود السماوات والأرض ...}
فقد كان قادرا على أن ينصر المسلمين بإنزال ملائكة من السماء ،وإن ملكا واحدا قادر على البطش بقريش ومن معها ،ولكن الله أراد أن يبتلي المسلمين بالجهاد والقتال ،ليظهر إيمان المؤمنين ،ونفاق المنافقين ،وهزيمة الكافرين .
{وكان الله عليما حكيما} .
أي: كان الله ولا يزال واسعا علمه ،محيطا علمه بكل شيء ،{حكيما} .في فعله ،لطيفا في تدبيره .
وقد أخذ جمهور العلماء من هذه الآية أن الإيمان يزيد وينقص ،واستدل جمهور الأشاعرة والفقهاء والمحدثين والمعتزلة على هذا بهذه الآية ،وبقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل: هل يزيد الإيمان وينقص ؟فقال صلى الله عليه وسلم: ( نعم ،يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة ،وينقص حتى يدخل صاحبه النار )9 .
وقد ذهب الشافعي ،ومالك والبخاري إلى أن الإيمان يزيد وينقص .
قال البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار ،فما رأيت واحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ،ويزيد وينقص .
وقد حالف في ذلك أبو حنيفة ،وأورد الألوسي في تفسيره هذا الموضوع بتوسع ،فليرجع إليه من شاء .
وقال المفسرون:
أراد بإنزال السكينة في قلوب المؤمنين ( أهل الحديبية ) حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مناجزة الحرب مع أهل مكة ،بعد أن حصل لهم ما يزعج النفوس ويزيغ القلوب ،من صد الكفار لهم عن دخول مكة ،ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصودهم ،فلم يرجع منهم أحد عن الإيمان ،بعد أن هاج الناس وماجوا ،وزلزلوا حتى جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،وقال: ألست نبي الله حقا ؟قال: ( بلى ) ،قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟قال: ( بلى ) ،قال: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ؟فقال صلى الله عليه وسلم: ( إني رسول الله ،ولست أعصيه وهو ناصري )10 .