{ولَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 118إلاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ 119}[ 118119] .
تعليق على الآية
{ولَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً}
والآية التالية لها
المتبادر أن الآيتين جاءتا كتعقيب على ما سبقهما ،وأنهما والحالة هذه متصلتان بالسياق .ولقد تعددت التأويلات التي قالها أو رواها المفسرون للآيتين .من ذلك أن الاختلاف المذكور في الأولى هو اختلاف الأديان والنحل .وأن الاستثناء الذي جاء في أول الآية الثانية عائد إلى الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ،ومن ذلك أن الاختلاف هو بسبيل وصف أهل الباطل والأشقياء بسبيل وصف أهل الحق .وأن هذا الاختلاف على أي قول هو من حكمة الله ومشيئته ليمتاز كل صنف عن الآخر وينال كل منهم ما يستحقه .ومن ذلك أن الاختلاف بسبيل بيان اختلاف الناس في الرزق ومراتب الحياة الاجتماعية .وأن حكمة الله اقتضته ليسخر بعضهم لبعض .
والعبارة القرآنية تتحمل كل ذلك إذا اعتبرت جملة{وتمت كلمة ربك} وما بعدها كلاما مستأنفا مستقلا عن ما قبله .أما إذا اعتبرت جزءا من معنى عموم الآيتين فيكون القول الأول هو الأوجه .وهناك من أوّل الآيتين بمعنى أن الله قادر حمل الناس على الإيمان والحق ولكن حكمته اقتضت تركهم لاختيارهم .وأن الاختلاف كان نتيجة ذلك فاستحقوا الثواب والعقاب .وهذا أيضا وجيه بل يتبادر لنا أنه أوجه التأويلات للآيتين روحا ونصا ،وأنه المتسق مع مبادئ قرآنية مرّ على تقريرها وشرحها في السور التي سبق تفسيرها .
وقد يصح أن يضاف إلى ذلك في الوقت نفسه أن الآيتين انطوتا أولا: على تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته عما كان من مواقف الكفار وعنادهم مع إنذار لهؤلاء .فلا محل لحزنه وغمّه .فإن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة وقسرهم على الإيمان والتصديق .ولكن حكمته اقتضت تركهم لاختيارهم فتكون جهنم مصير كل من اختار الكفر والبغي .وعلى ضوء هذا فتكون جملة{إلاّ من رحم ربك} بسبيل التنويه بالذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم الذين تداركتهم رحمة الله فلم يكونوا من أهل جهنم بالإضافة إلى أنها عامة مستمرة المدى .ومثل هذا التطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والتنويه بالمؤمنين قد تكرر كثيرا ومرّت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها ؛لأن المواقف التي تقتضيها كانت تتكرر .
وثانيا: على رد على طريقة الأسلوب الحكيم على تساؤل كثير من الناس ،حيث احتوت تقرير كون اختلاف الناس هو مظهر طبيعي وناموس من نواميس الله فيهم لييسر كلا منهم حسب قابليته واختياره فلو شاء لخلقهم على جبلة واحدة ووتيرة واحدة وملة واحدة .وحينئذ لا يتميزون عن سائر الحيوانات .ولا يكون معنى لما اقتضته حكمة الله من جعلهم أهلا للتكليف وخلفاء في الأرض ليكونوا فيها أولي الأمر والشأن والانتفاع من مختلف مظاهر كونه ومن بعثهم يوم القيامة ليجزي كلا منهم بما كسب في الحياة الدنيا .والله تعالى أعلم .
وقد يبدو لأول وهلة بين الآية الأولى وآية سورة يونس [ 19] التي جاء فيها:{وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا} تناقض .ولسنا نرى ذلك فآية يونس في صدد وحدة فطرة الله التي فطر الناس عليها ،وما كان من اختلافهم وشذوذهم عنها على ما شرحناه في سياقها وفي هذه الآية تعليل لذلك الاختلاف والشذوذ .والله تعالى أعلم .