التّفسير
في الآية الأُولى محل البحث إِشارة إلى واحدة من سنن الخلق والوجود والتي تمثّل اللبنات التحتيّة لسائر المسائل المرتبطة بالإِنسان ...وهي مسألة الاختلاف والتفاوت في بناء الإِنسان روحاً وفكراً وجسماً وذوقاً وعشقاً ،ومسألة حرية الإِرادة والاختيار .
تقول الآية ( ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمّة واحدةً ولا يزالون مختلفين ) .
لئلا يتصور أحد من الناس أنّ تأكيد الله وإِصراره على طاعة أمره دليل على عدم قدرته على أن يجعلهم في سير واحد ومنهج واحد .
نعم ،لم يكنأي مانعأن يخلق جميع الناس بحكم إِلزامه وإِجباره على شاكلة واحدة ،ويجعلهم مؤمنين بالحق ومجبورين على قبول الإِيمان به ...
لكن مثل هذا الإِيمان لا تكون فيه فائدة ولا في مثل هذا الاتحاد ...فالإِيمان القسري الذي ينبع من هدف غير إرادي لا يكون علامة على شخصية الفرد ولا وسيلة للتكامل ،ولا يوجب الثواب كما هو الحال في خلق النحل خلقاً يدفعها بحكم الغريزة إلى أن تجمع الرحيق من الأزهار ...وخلق بعوضة الملاريا خلقاً يجعلها تستقر في المستنقعات ،ولا يمكن لأيّ منهما أن تتخلى عن طريقتها .
إِلاّ أنّ قيمة الإِنسان و امتيازه وأهم ما يتفاوت فيه عن سائر الموجودات هي هذه الموهبة ،وهي حرية الإِرادة والاختيار ،وكذلك امتلاك الأذواق والأطباع والأفكار المتفاوتة التي يصنع كل واحد منها قسماً من المجتمع ويؤمّن بُعداً من أبعاده .
ومن طرف آخر فإنّ الاختلاف في انتخاب العقيدة والمذهب أمر طبيعي مترتب على حرية الإرادة ويكون سبباً لأنّ تقبل جماعة طريق الحق وتتبع جماعة أُخرى الباطل ،إِلاّ أن يتربى الناس تربية سليمة في أحضان الرحمة الإلهية ويتعلموا المعارف الحقة بالاستفادة من مواهب الله تعالى لهم ...ففي هذه الحال ،ومع جميع ما لديهم من اختلافات ،ومع الاحتفاظ بالحريّة والاختيار ،فإنّهم سيخطون خطوات في طريق الحق وإِن كانوا يتفاوتون في هذا المسير .