بعد ذلك أخذ سبحانه وهو المنعم بالوجود يبين بعض نعمه على الناس ، فقال تعالت حكمته:
{ وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ( 53 )} .
والكلام موصول لبيان نعم الله تعالى ، وقد ذكر أولا نعم الله تعالى على الوجود الكوني كله بخلق السموات والأرض ومن فيهن من أجرام وأحياء ، وعقلاء وغير عقلاء ، ثم يذكر في هذه نعمة على الإنسان خاصة ، فيقول مخاطبا الناس ،{ وما بكم من نعمة فمن الله} ( ما ) اسم موصول بمعنى الذي ، وهو يكون أحيانا في معنى الشرط ؛ ولذا تدخل الفاء فيما بعده على أنه جواب الشرط الذي تضمنه الموصول ، والمعنى على ذلك:الذي بكم من نعمة في الصحة والعقل والغذاء والكساء والمأوى ، والماء الذي تشربون ، والدفء الذي به تستدفئون ، كل هذا وغير مما غمركم به من نعم سابغات فمن الله تعالى المنعم المتفضل على غيره ،{. . .وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها . . .( 34 )} [ إبراهيم] .
وهو مع هذه النعم السابقة كاشف الضر ، ورافع الأذى ؛ ولذا قال تعالى:{ ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} أتى ب ( ثم ) ، هنا للتباعد بين حال النعمة وحال الضر ، أي أنه منزل النعم ، وكاشف النقم ، والضر هو ما يصيب الإنسان من ضرر في جسمه بمرض ، أو يصيبه من تعرض للغرق أو الحرق ، وهكذا من أسباب الضرر ، ومسكم:أصابكم أو نزل بكم فإليه وحده تضرعون ؛ ولذا قال:{ فإليه تجأرون} ، يقال جأر يجرأ جؤارا ، أي تضرع ولجأ ، وصاح لاجئا إلى الله تعالى ، ولفظ جأر تدل الالتجاء إلى الله تعالى لفزع وهلع ، فإن كان الذي مسه مرضا جهش ودعا ، وإذا كان الذي مسه ضررا كان التجاؤه بصياح كخوار البقر .
ويقول تعالى:{ فإليه تجأرون} ، بتقديم الجار والمجرور على الفعل أي إليه وحده تجأرون ضارعين .