عطف خبر على خبر .وهو انتقال من الاستدلال بمصنوعات الله الكائنة في ذات الإنسان وفيما يحيط به من الموجودات إلى الاستدلال بما ساق الله من النعم ،فمن الناس معرضون عن التّدبر فيها وعن شكرها وهم الكافرون ،فكان في الأدلّة الماضية القصد إلى الاستدلال ابتداء متبوعاً بالامتنان .
وتغيّر الأسلوب هنا فصار المقصود الأول هو الامتنان بالنّعم مُدمجاً فيه الاعتبار بالخلق .فالخطاب موجّه إلى الأمّة كلّها ،ولذلك جاء عقبه قوله تعالى:{ إذا فريق منكم بربّهم يشركون} .
وابتدىء بالنّعم على وجه العموم إجمالاً ثم ذكرت مهمات منها .
والخطاب موجّه إلى المشركين تذكيراً لهم بأن الله هو ربّهم لا غيره لأنه هو المنعم .
وموقع قوله تعالى:{ وما بكم من نعمة فمن الله} هنا أنه لما أبطل في الآية السابقة وجود إلهين اثنين ( أحدهما فعله الخير والآخر فعله الشرّ ) أعقبه هنا بأن الخير والضر من تصرفات الله تعالى ،وهو يعطي النّعمة وهو كاشف الضرّ .
والباء للملابسة ،أي ما لابسكم واستقرّ عندكم ،و{ من نعمة} لبيان إبهام{ ما} الموصولة .
و ( مِن ) في قوله تعالى:{ فمن الله} ابتدائية ،أي واصلة إليكم من الله ،أي من عطاء الله ،لأن النّعمة لا تصدر عن ذات الله ولكن عن صفة قدرته أو عن صفة فعله عند مثبتي صفات الأفعال .ولما كان{ ما بكم من نعمة} مُفيداً للعموم كان الإخبار عنه بأنه من عند الله مغنياً عن الإتيان بصيغة قصر .
و{ ثمّ} في قوله تعالى:{ ثم إذا مسكم الضر} للتّراخي الرتبي كما هو شأنها الغالب في عطفها الجملَ ،لأن اللجأ إلى الله عند حصول الضرّ أعجب إخباراً من الإخبار بأن النّعم كلّها من الله ،ومضمون الجملة المعطوفة أبعد في النظر من مضمون المعطوف عليها .
والمقصود: تقرير أن الله تعالى هو مدبّر أسباب ما بهم من خير وشرّ ،وأنه لا إله يخلق إلا هو ،وأنهم لا يلتجئون إلا إليه إذا أصابهم ضرّ ،وهو ضد النّعمة .
ومسّ الضرّ: حلوله .استعير المسّ للحصول الخفيف للإشارة إلى ضيق صبر الإنسان بحيث إنه يجأر إلى الله بحصول أدنى شيء من الضرّ له .وتقدم استعمال المسّ في الإصابة الخفيفة في قوله تعالى{ وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلا هو} في سورة الأنعام ( 17 ) .
و{ تجأرون} تصرُخون بالتضرّع .والمصدر: الجؤار ،بصيغة أسماء الأصوات .