{تَجْأرُونَ}: الجؤار ،الاستعانة برفع الصوت ،وتجأرون: ترفعون أصواتكم مستعينين .
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وهذه دعوة للتفكير في مصدر النعمة التي تحيط بالإنسان في كل تفاصيل وجوده ،سواء منها القوى الذاتية التي تحرك أجهزة جسده ،أو العوامل الخارجية التي تمده بأسباب الحياة ،أو تسهِّل له استمرارها بشكل أفضل .فهل يستطيع اكتشاف مصدرٍ فعلي لهذه النعم كلها غير الله ؟لا شك أن ذلك أمر غير ممكن ،لأن الأسباب المباشرة التي قد يلتقيها الإنسان في بداية طريق بحثه ،تقوده إلى الله الذي خلق السبب وأودع فيه سرّ السببيّة ،وأنه هو الذي خلق الإنسان ،وألهمه عمل ما يقوم بعمله ،أو صنع ما يقوم بصناعته من أدوات النعم .وهذا هو الدليل على وحدانية الله ،في حركة النعمة في الوجود ،إلى جانب الأدلة الكثيرة على وحدانيته ،في حركة الخلق في الكون ،ولكن الإنسان يغفل عن ربه ،ويستمر في غفلته ،فينساه ،وينسى معه كل التزامٍ بطاعته ،ثم تأتي الصدمة التي تهز وجوده ،فترجعه إلى وعيه وصوابه ،فيكتشف حاجته إليه من جديد ،ويلجأ إليه في ابتهال المضطر الخائف الراجي ،الذي يتوسل إلى ربه ليكشف عنه ما أصابه من ضرّ{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأرُونَ} فترفعون أصواتكم إليه مستغيثين به .وقد تكونون من المنكرين له ،وقد تكونون من الغافلين عنه ،أو من المشركين به أو بعبادته ،ولكن الفطرة العميقة المتصلة بكل خلجة من خلجات المشاعر ،وبكل نبضةٍ من نبضات القلوب ،وبكل حركةٍ من حركات العقل ،تستيقظ وتتحرك وتهمس للحس وللقلب وللعقل بكلمة الله ،ليعيش الإنسان معها من جديد ،فيحس بالحنان والحب والعاطفة ،تهوي عليه من علياء الله ،الذي يعفو ويسامح ويرحم ويغفر ،فلا يشعر الإنسان بوجود حواجز تحول بينه وبين الأمل بالرحمة التي تكشف الضر عنه ،وتفرّج عنه غمّه وهمّه وكربه ،وهكذا ينطلق الإحساس بوجود الله في الأعماق ؛ليدلّل على وحدانيته عن طريق الشعور والعقل ،لأن القلب لا يتجه إلا إليه عند الشعور بالخطر ،كما أن العقل لا يهتدي إلا إليه عند البحث عن سرّ الوجود .
وبهذا يتأكد الارتباط بين الخالق والمخلوق في عمق الوجود الإنساني ،ليكون الإحساس بالله الواحد هو العمق الروحي الذي يحكم حركة الإنسان في الحياة ،وهذا ما يعنيه الوجدان الذي يحس بالله ،قبل أن تحكم معادلات العقل بوجوده .