اختلف أهل العربية في وجه دخول الفاء في قوله ( فَمِنَ اللَّهِ ) فقال بعض البصريين:دخلت الفاء، لأن "ما "بمنـزلة "من "فجعل الخبر بالفاء. وقال بعض الكوفيين:"ما "في معنى جزاء، ولها فعل مضمر، كأنك قلت:ما يكن بكم من نعمة فمن الله، لأن الجزاء لا بدّ له من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم، وإن لم يظهر فهو مضمر ، كما قال الشاعر:
إنِ العَقْـلُ فـي أموَالِنـا لا نَضِـقْ بِهِ
ذِرَاعًـا وَإنْ صَـبْرًا فنَعْـرِفُ للصَّبْرِ (12)
وقال:أراد:إن يكن العقل فأضمره. قال:وإن جعلت "ما بكم "في معنى الذي جاز ، وجعلت صلته بكم و "ما "في موضع رفع بقوله ( فَمِنَ اللَّهِ ) وأدخل الفاء ، كما قالإِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْوكل اسم وصل مثل من و ما و الذي، فقد يجوز دخول الفاء في خبره لأنه مضارع للجزاء والجزاء قد يجاب بالفاء، ولا يجوز أخوك فهو قائم، لأنه اسم غير موصول، وكذلك تقول:مالك لي، فإن قلت:مالك، جاز أن تقول:مالك فهو لي، وإن ألقيت الفاء فصواب.
وتأويل الكلام:ما يكن بكم في أبدانكم أيها الناس من عافية وصحة وسلامة ، وفي أموالكم من نماء، فالله المنعم عليكم بذلك لا غيره، لأن ذلك إليه وبيده ( ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ ) يقول:إذا أصابكم في أبدانكم سَقَم ومرض ، وعلة عارضة ، وشدّة من عيش ( فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) يقول:فإلى الله تصرخون بالدعاء وتستغيثون به، ليكشف ذلك عنكم ، وأصله:من جؤار الثور، يقال منه:جأر الثور يجأر جؤارا، وذلك إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو غيره ، ومنه قول الأعشى:
وَمـــا أيْبُـــلِيٌّ عَــلى هَيْكَــلِ
بَنــاهُ وَصَلَّــبَ فِيــهِ وصَــارَا
يُــرَاوِحُ مِــنْ صَلَــوَاتٍ المَـلِيـ
كِ طَـوْرًا سُـجُودًا وَطَـوْرًا جُـؤْارًا (13)
يعني بالجؤار:الصياح، إما بالدعاء ، وإما بالقراءة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال:ثنا أبو عاصم، قال:ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال:ثنا الحسن قال:ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال:أخبرنا أبو حُذيفة، قال:ثنا شبل وحدثني المثنى، قال:أخبرنا إسحاق، قال:ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) قال:تضرعون دعاء.
حدثنا القاسم، قال:ثنا الحسين، قال:ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى، قال:أخبرنا أبو صالح، قال:ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال:الضُّرُّ:السُّقْم.
------------------------
الهوامش:
(12) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (1:173) عند قوله تعالى:(وما بكم من نعمة فمن الله. قال:ما:في معنى جزاء، ولها فعل مضمر، كأنك قلت:ما يكن بكم من نعمة فمن الله؛ لأن الجزاء لا بد له من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم، وإن لم يظهر فهو مضمر، كما قال الشاعر:"إن العقل .."البيت. أراد:إن يكن، فأضمرها. ولو جعلت "ما بكم "في معنى "الذي":جاز ، وجعلت صلته "بكم"، والذي حينئذ:في موضع رفع، بقوله "فمن الله". وأدخل الفاء، كما قال تعالى:(قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم). وكل اسم وصل، مثل من وما، والذي، فقد يجوز دخول الفاء في خبره؛ لأنه مضارع للجزاء، والعقل في البيت معناه:الدية.
(13) البيتان من شعر الأعشى ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة ص 53) من قصيدة له سبعون بيتا، يمدح بها قيس ابن معد يكرب. والأييلي:الراهب صاحب الأيبل، وهو العصا التي يدق بها الناقوس. والهيكل:موضع في صدر الكنيسة، يقرب في القربان. صلب صور فيه الصليب. وفي اللسان صار:
صور عن أبي علي الفارسي. ويلوح لي أن المراد بصور في البيت:هو ما قاله الأعشى في بيت آخر وهو قوله وفي وصف الخمر "وصلى على دنها وارتسم". ومعنى ارتسم:أشار بيده على جبهته وقلبه وصدره يمنة ويسرة، كما يفعل المسيحيون. وراوح بين العملين:تداول هذا مرة، وهذا مرة. وجأر إلى الله جؤارا:تضرع إليه بالدعاء والاستغاثة. يقول:ليس الراهب المعتكف في هيكله أمام صليبه، دائبا على صلواته سجوداً وتضرعاً إلى الله، بأعظم منه تقي في الحساب (خبر مِا:في البيت الذي بعد البيتين).