وإن الله تعالى هو المعطى الوهاب يعطي عباده من يريدون من حظوظ الدنيا والآخرة ، ولذا قال سبحانه:
{ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ( 18 )} .
{ كان} هنا للدلالة على الرغبة المستمرة ، والإرادة الدائمة ما دام على قيد الحياة ، والعاجلة وصف للدنيا أي الدنيا العاجلة ومتعها ، وجعلها غايته ، ومرمى همته ، ومطرح نظره ، ولم يكن له هم سواها ، وذكر الوصف دون الموصوف للإشارة إلى سبب الرغبة ، وهو كونها قريبة دانية ، فصاحب هذه الإرادة لا يريد إلا منافع العاجلة ، وإن كانت زائلة ، ولا يريد المنافع الآجلة ، وإن كانت هي الباقية ، وقد كان جواب الشرط{ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} ، وفي الكلام جناس بين ( عاجلة ) ، و ( عجلنا ) ، وإنه يتلهف للعاجلة ، فيشبع الله تعالى نعمته بالتعجيل بما أراد ، ولكنه سبحانه يسير خلقه بحكمه ؛ فهو يعطى بحكمة ، ويمنع لحكمة ، ولذا لم يقل سبحانه إنه يعطيهم من العاجلة بما يشاءون ، ولا أنه يعطى الجميع ، بل يعطى من يريد تسجيلا لمشيئته ولحكمته ، وتثبيتا لإرادته واختياره ، ولذا قال:{ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} ، فقيد العطاء بمشيئته ، بالنسبة للعطاء فقد يعطى هذا المال ، ولا يعطيه الصحة ، وقد يعطيه السلطان ، ولا يعطيه العزة ، وقد يعطى هذا الجاه ، ولا يعطيه إلا الذل والهوان ، والعيش الدون في الذلة ، وفي الجملة يعطى العاجلة ، ولكن ليست كلها ، ولا يعطى العاجلة كل من يريدها بل يعطيها من اتخذ أسبابها ، ولم يتنكب طريقه فيجتمع له مع كفره ذل الدنيا وعذاب الآخرة .
فيعطى طالب الدنيا هذا ، وينال ما يشاء الله وبعض ما يتمناه ، وهو في الآخرة ينال الحسرة والعذاب ، ولذا قال تعالى:{ ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا} ، أي جعلنا له ومن اختصاصه بشكل دائم جهنم يتخذها مثوى دائما ومستقرا ، ويصلى نارها ، ويقال له{ ذق إنك أنت العزيز الكريم ( 49 )} [ الدخان] حال كونه{ مذموما} لا يمدح أبدا ، و{ مدحورا} ، أي مطرودا من رحمة الله ، ورضاه فلا ينظر الله إليهم ، ولا يكلمهم . . .
هذا من أراد الدنيا ، ومن أراد الآخرة قال تعالى فيه:
{ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( 19 )} .