وبعد أن أشار سبحانه إلى بركته وخيره ، ونمائه ، شرّفه بمنزله ، وهو الله خالق السموات والأرض فقال:
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ( 2 )} .
هذا شرف للقرآن ناله ، من أن منزله هو منشئ هذا الكون لا يشبه أحدا من الحوادث ، ولا يشبهه شيء في الوجود ،{ الذي} بدل أو عطف بيان للذي الأولى في قوله تعالى:{ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ} وذكر هذا بعد ذكر إنزال القرآن للدلالة أولا على شرف القرآن بإضافته إلى من له الملك في السموات والأرض ، ويبين أن إنزال القرآن من تدبير صاحب الملك لملكه ، لإصلاح عباده وإرشادهم به .
والملك هو السلطان وهو مطلق لله تعالى لا سلطان لغيره ، وهو قيم السموات والأرض ، فالنجوم لا تسير إلا بسلطانه ، وكل ما فيها من شمس وقمر ، ونجوم مسخرات بأمره وحده ، وكذلك الأرضون ، كل ما فيها من جبال ووهاد وبحار ونجاد وحيوان وجماد ومعادن وفلزات وغيرها كله مسخر بأمره .
ووصف الله سبحانه ذاته العلية بصفتين سلبيتين ، وصفة إيجابية تدل على إثبات السلب ، الأولى قوله تعالى:{ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} ، وذلك رد على النصارى الذين ادعوا أن عيسى ابن الله ، وعلى الهنود والبوذيين الذين أخذ منهم النصارى هذه النحلة ، وعلى الذين يعبدون الملائكة ، ويقولون إنهم بنات الله تعالى .
وقوله تعالى:{ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} أي لم يجعل له من بين خلقه من يتخذه عونا ونصيرا ، والنفي بهذه الصفة يحمل في نفسه بطلان الاتخاذ ، لأن الاتخاذ يدل على الحاجة ، والله تعالى لا يحتاج لأحد من خلقه{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ( 15 )} [ فاطر] .
الصفة السلبية الثانية قوله تعالى:{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} هذا نفي مطلق ، لأنه لو كان له شريك في الملك ما استقام الكون ، كما قال تعالى:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 22 )} [ الأنبياء] .
الصفة الثالثة وهي الإيجابية ، وتتضمن في معناها برهان السلب في السلبيتين ، وقد بينها سبحانه بقوله تعالى{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ، أي أنشأ كل شيء إنشاء مقدارا بإحكام ، هو تقدير العزيز العليم ، فالسماء ذات البروج ، والمطر ينزل فينبت الزرع ، والحيوان يأكل مما تنبت الأرض ، وهكذا يسير الكون بقدرة الله العلي القدير ، وتتفاعل الأشياء بعضها من بعض بإرادة الله تعالى العزيز الحكيم .