قوله تعالى:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} .
قوله:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} ،بدل من الَّذي في قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ} ،وقال بعضهم: هو مرفوع على المدح ،وقال بعضهم: هو منصوب على المدح .وقد أثنى -جلَّ وعلا- على نفسه في هذه الآية الكريمة بخمسة أمور ،هي أدلَّة قاطعة على عظمته ،واستحقاقه وحده لإخلاص العبادة له:
الأول: منها أنه هو الذي له ملك السماوات والأرض .
والثاني: أنه لم يتّخذ ولدًا ،سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا .
والثالث: أنه لا شريك له في ملكه .
والرابع: أنه هو خالق لك شيء .
والخامس: أنه قدّر كل شيء خلقه تقديرًا ،وهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في آيات أُخر .
أمّا الأوّل منها: وهو أنه له ملك السماوات والأرض ،فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛كقوله تعالى في سورة «المائدة »:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} [ المائدة: 40] الآية ،وقوله تعالى في سورة «النور »:{وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [ النور: 42] ،وقوله تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} [ فاطر: 13] الآية ،وجميع الآيات التي ذكر فيها جلَّ وعلا أن له الملك ،فالملك فيها شامل لملك السماوات والأرض وما بينهما وغير ذلك .كقوله تعالى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [ آل عمران: 26] الآية ،وقوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [ الملك: 1] الآية .وقوله تعالى:{لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} [ غافر: 16] ،وقوله تعالى:{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ في الصُّوَرِ} [ الأنعام: 73] الآية ،وقوله تعالى:{مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ} [ الفاتحة: 4] ،والآيات الدالّة على أن له ملك كل شيء كثيرة جدًا معلومة .
وأمّا الأمر الثاني: وهو كونه تعالى لم يتّخذ ولدًا ،فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛كقوله تعالى:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [ الإخلاص: 3-4] ،وقوله تعالى:{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً} [ الجن: 3] ،وقوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} [ الأنعام: 101] الآية .وقوله تعالى:{وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَانِ عَبْداً} [ مريم: 88-93] ،وقوله تعالى:{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [ الكهف: 4-5] ،وقوله تعالى:{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [ الإسراء: 40] ،وقوله تعالى:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} ،إلى قوله:{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [ المؤمنون: 91] ،والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة ،وقد قدّمنا ذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة «الكهف » وغيرها .
وأمّا الأمر الثالث: وهو كونه تعالى لم يكن له شريك في الملك ،فقد جاء موضحًا في غير هذا الموضع ؛كقوله تعالى في آخر سورة «بني إسرائيل »:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ في الْمُلْكِ} [ الإسراء: 111] الآية ،وقوله تعالى في سورة «سبأ »:{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ} [ سبأ: 22] ،وقوله تعالى:{لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} [ غافر: 16] ؛لأن قوله:{الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} يدلّ على تفرّده بالملك ،والقهر ،واستحقاق إخلاص العبادة ،كما لا يخفى ،إلى غير ذلك من الآيات .
وأمّا الأمر الرابع: وهو أنه تعالى خلق كل شيء ،فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛كقوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيء وهُوَ بِكُلّ شَيء عَلِيمٌ * ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيء وَكِيلٌ} [ الأنعام: 101-102] ،وقوله تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلّ شَيء لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [ غافر: 62-63] ،إلى غير ذلك من الآيات .
وأمّا الأمر الخامس: وهو أنه قدَّر كل شيء خلقه تقديرًا ،فقد جاء أيضًا في غير هذا الموضع ؛كقوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [ الأعلى: 2-3] ،وقوله تعالى:{وَكُلُّ شَيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [ الرعد: 8] ،وقوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [ القمر: 49] ،إلى غير ذلك من الآيات .وقال ابن عطيّة: تقدير الأشياء هو حدّها بالأمكنة ،والأزمان ،والمقادير ،والمصلحة ،والإتقان .انتهى بواسطة نقل أبي حيّان في «البحر » .
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ،وهو أن يقال: الخلق في اللغة العربية ،معناه التقدير .ومنه قول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبع*** ض القوم يخلق ثم لا يفري
قال بعضهم: ومنه قوله تعالى:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [ المؤمنون: 14] ،قال: أي أحسن المقدّرين ،وعلى هذا فيكون معنى الآية{وَخَلَقَ كُلَّ شَيء} ،أي: قدّر كل شيء فقدّره تقديرًا ،وهذا تكرار كما ترى ،وقد أجاب الزمخشري عن هذا السؤال ،وذكر أبو حيان جوابه في «البحر » ،ولم يتعقّبه .
والجواب المذكور هو قوله: فإن قلت في الخلق معنى التقدير ،فما معنى قوله:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} ،كأنه قال: وقدّر كل شيء فقدّره .
قلت: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثًا مراعي فيه التقدير والتسوية فقدّره وهيّأه لما يصلح له .
مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدّر المسوى ،الذي تراه فقدّره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا ،وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الحيلة المستوية المقدّرة بأمثلة الحكمة والتدبير ،فقدّره لأمر ما ومصلحة مطابقًا لما قدّر له غير متجافٍ عنه ،أو سمى إحداث اللَّه خلقًا ؛لأنه لا يحدث شيئًا لحكمته إلا على وجه التقدير غير متفاوت ،فإذا قيل: خلق اللَّه كذا ،فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق ،فكأنّه قيل: وأوجد كل شيء فقدّره في إيجاده لم يوجده متفاوتًا .وقيل: فجعل له غاية ومنتهى ،ومعناه: فقدّره للبقاء إلى أمد معلوم ،انتهى كلام صاحب «الكشاف » وبعضه له اتّجاه ،والعلم عند اللَّه تعالى .