{الذي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأرض} فلا يملكها غيره ،فله الهيمنة عليها ،لأن ملكيته لها لم تكن مستمدة من مالك آخر ،كما هو الملك القانوني الذي يخضع لحدود معينة ،وضوابط محدّدة ،تحدّد له الخطوط التي يتحرك فيها ؛بل كانت مستمدةً من طبيعة خلقه وإيجاده ،فهو الذي أعطاها سرّ الوجود وملامحه التفصيلية ،ما جعل كل شيء فيها بيده ،وبذلك فإنه الذي يعلم كل ما يتعلق بها ويشرف على تحريكه من أكثر من موقع ،وتلك هي العقيدة المنفتحة على كل فروعها من نفي الولد ،ونفي الشريك ،{وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} لأن الولد مظهر حاجة للاستعانة به على مواقع الضعف ،وللامتداد من خلاله في الحياة من بعده .
والله هو الذي يملك القوّة كلها في الكون ،فأيّ حاجة به إلى معين ،وهو الحيّ الدائم الذي لا زوال له ،فأيّ حاجة به إلى امتدادٍ للحياة بغيره ؟!وليس لفكرة الولد بالمعنى المادي ،أو الروحي ،إلاَّ الوهم الذي لا يستوعب فيه الإنسان عظمة خلق الله ،من خلال ما أراد الله أن يلبسهم من نعمه وفضله ،فلا يفكر أنها هبة من الله لعبده كما يهبه الوجود ،بل يحاول أن يتخيّل أن ذلك دليل ارتباط عضويّ بالله وانتساب إليه ،تماماً كما هي الأوهام التي يصنعها الناس لبعض مخلوقات الله ،في ما يتخيلونه لها من أسرار غامضة ،وقداسةٍ خفية ،فيمنحونها صفة إِله ،من دون أيّ أساس لذلك كله في الملامح الذاتية لها ،في ما يمثله مظهر وجودها بكل تفاصيله .
{وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ} يساويه ويعاونه ،أو يضادّه ،فلا شيء لأحدٍ معه ،فهو الذي يملك السماوات والأرض وما فيهن وما فوقهن وما بينهن وما تحتهن ،فكل موجود مخلوق له ومحتاج إليه في استمرار وجوده بكل دقائقه وخصائصه ،فكيف يمكن أن يكون شريكاً له وكيف يمكن للمخلوق أن يرتفع إلى مستوى الخالق ،أو يأخذ بعض خصائصه ،وهل يمكن أن تجتمع في شخص واحد ،الحاجة المطلقة إلى كل شيء ،في ما يمثله معنى المخلوق ،والغنى المطلق عن كل شيء في ما يمثله معنى الخالق والإِله ؟!
{وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ..} وأعطى كل شيء قانون حياته ،مما خلقه من سننٍ كونيةٍ للوجود ،وجعلها خاضعةً لتدبيره ،وجاريةً على نهج حكمته .ولذلك كانت الفطرة تتجه إلى البحث عن سرّ الأشياء ،في ما تختزنه من عمق السببية التكوينية في حركة الوجود ،من خلال وعيها للنظام الكوني الكامن في عمق الظواهر ،مما كان مرتبطاً بالخلق منذ بدايته ،فلم تكن هناك حالة فراغٍ بين ما هو الخلق وما هو القانون الذي يحكمه ويديره ،بل كان التقدير لازماً له في طبيعته .ولذا فإن الله يتولى تدبير الكون من خلال سننه الكونية ،كما يشرف على حركته من خلال هيمنته على تلك السنن ،لأنها لا تملك الاستغناء عنه ،بل هي مشدودةٌ إلى قدرته وإرادته بطبيعة انشداد الوجود بنفسه إليه ،فلا خالق غيره ،ولا مدبّر سواه .