قوله تعالى:{إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} .
الظاهر أن مراد أولاد يعقوب بهذا الضلال الذي وصفوا به أباهمعليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذه الآية الكريمةإنما هو الذهاب عن علم حقيقة الأمر كما ينبغي .
ويدل لهذا ورود الضلال بهذا المعنى في القرآن وفي كلام العرب .فمنه بهذا المعنى قوله تعالى عنهم مخاطبين أباهم:{قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} وقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم:{وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى} [ الضحى:7] أي لست عالماً بهذه العلوم التي لا تعرف إلا بالوحي ،فهداك إليها وعلمكم بما أوحي إليك من هذا القرآن العظيم .ومنه بهذا المعنى قول الشاعر:
وتظن سلمى أنني أبغي بها*** بدلا أراها في الضلال تهيم
يعني: أنها غير عالمة بالحقيقة في ظنها أنه يبغي بها بدلاً وهو لا يبغي بها بدلاً .
وليس مراد أولاد يعقوب الضلال في الدين ،إذ لو أرادوا ذلك لكانوا كفاراً ،وإنما مرادهم أن أباهم في زعمهم في ذهاب عن إدراك الحقيقة ،وإنزال الأمر منزلته اللائقة به ،حيث آثر اثنين على عشرة ،مع أن العشرة أكثر نفعاً له ،وأقدر على القيام بشؤونه وتدبير أموره .
واعلم أن الضلال أطلق في القرآن إطلاقين آخرين:
أحدهماالضلال في الدين ،أي الذهاب عن طريق الحق التي جاءت بها الرسل صلوات الله عليهم وسلامه .وهذا أشهر معانيه في القرآن .ومنه بهذا المعنى{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ} [ الفاتحة: 7] وقوله:{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ} [ الصافات: 71] ،وقوله:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} [ يس: 62] إلى غير ذلك من الآيات .
الثانيإطلاق الضلال بمعنى الهلاك والغيبة ؛من قول العرب: ضل السمن في الطعام ،إذا غاب فيه وهلك فيه ،ولذلك تسمي العرب الدفن إضلالاً ؛لأنه تغيب في الأرض يؤول إلى استهلاك عظام الميت فيها ،لأنها تصير رميماً وتمتزج بالأرض .ومنه بهذا المعنى قوله تعالى:{وَقَالُواْ أَءِذَا ضَلَلْنَا في الأرْضِ} [ السجدة: 10] الآية .
ومن إطلاق الضلال على الغيبة قوله تعالى:{وضلّ عنهم ما كانوا يفترون} أي غاب واضمحل .
ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان:
فآب مضلوه بعين جلية*** وغودر بالجولان حزم ونائل
فقوله: مضلوه ،يعني دافنيه .وقوله: بعين جلية ،أي بخبر يقين .والجولان: جبل دفن عنده المذكور .
ومن الضلال بمعنى الغيبة والاضمحلال قول الأخطل:
كنت القذى في موج أكدر مزبد*** قذف الأتى به فضل ضلالا
وقول الآخر:
ألم تسأل فتخبرك الديار ***عن الحي المضلل أين ساروا