قوله تعالى:{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ في الأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} .
قوله:{وَمَا} في محل نصب عطفاً على قوله{وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ} أي وسخر لكم ما ذرأ لكم في الأرض ،أي ما خلق لكم فيها في حال كونه مختلفاً ألوانه .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة امتنانه على خلقه بما سخر لهم مما خلق لهم في الأرض منبهاً على أن خلقه لما خلق لهم في الأرض مع ما فيه من النعم العظامفيه الدلالة الواضحة لمن يذكر ويتعظ على وحدانيته واستحقاقه لأن يعبد وحده .وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة ،كقوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرْضِ جَمِيعاً} [ البقرة:29] ،وقوله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} [ الجاثية:13] الآية ،وقوله:{وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَام ِفِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [ الرحمن: 10-13] ،وقوله:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ في مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [ الملك: 15] .
وأشار في هذه الآية الكريمة إلى أن اختلاف ألوان ما خلق في الأرض من الناس والدواب وغيرهما من أعظم الأدلة على أنه خالق كل شيء ،وأنه الرب وحده ،المستحق أن يعبد وحده .
وأوضح هذا في آيات أخر .كقوله في «سورة فاطر »:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [ فاطر:27-28] ،وقوله:{وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [ الروم: 22] ولا شك أن اختلاف الألوان والمناظر والمقادير والهيئات وغير ذلكفيه الدلالة القاطعة على أن الله جل وعلا واحد ،لا شبيه له ولا نظير ولا شريك ،وأنه المعبود وحده .
وفيه الدلالة القاطعة على أن كل تأثير فهو بقدرة وإرادة الفاعل المختار ،وأن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا .
كما أوضح ذلك في قوله:{وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ في الأُكُلِ إِنَّ في ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [ الرعد: 4] فالأرض التي تنبت فيها الثمار واحدة ؛لأن قطعها متجاورة ،والماء الذي تسقى به ماء واحد ،والثمار تخريج متفاضلة ،مختلفة في الألوان والأشكال والطعوم ،والمقادير والمنافع .
فهذا أعظم برهان قاطع على وجود فاعل مختار ،يفعل ما يشاء كيف يشاء ،سبحانه جل وعلا عن الشركاء والأنداد .
ومن أوضح الأدلة على أن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلاأن النار مع شدة طبيعة الإحراق فيها ألقى فيها الحطب وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ،ولا شك أن الحطب أصلب وأقسى وأقوى من جلد إبراهيم ولحمه ؛فأحرقت الحطب بحرها ،وكانت على إبراهيم برداً وسلاماً لما قال لها خالقها:{قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [ الأنبياء: 69] فسبحان من لا يقع شيء كائناً ما كان إلا بمشيئته جل وعلا ،فعال لما يريد .
وقوله في هذه الآية الكريمة:{يَذَّكَّرُونَ} أصله يتذكرون ،فأدغمت التاء في الذال .والاذكار: الاعتبار والاتعاظ .