قوله تعالى:{وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً 25} .
لم يصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة ببيان الشيء الذي أمرها أن تأكل منه ،والشيء الذي أمرها أن تشرب منه .ولكنه أشار إلى أن الذي أمرها أن تأكل منه هو «الرطب الجني » المذكور .والذي أمرها أن تشرب منه هو النهر المذكور المعبر عنه «بالسري » كما تقدمهذا هو الظاهر .
وقال بعض العلماء: إن جذع النخلة الذي أمرها أن تهز به كان جزعاً يابساً ؛فلما هزته جعله الله نخلة ذات رطب جني .وقال بعض العلماء: كان الجذع جذع نخلة نابتة إلا أنها غير مثمرة ،فلما هزته أنبت الله فيه الثمر وجعله رطباً جنياً .وقال بعض العلماء: كانت النخلة مثمرة ،وقد أمرها الله بهزها ليتساقط لها الرطب الذي كان موجوداً .والذي يفهم من سياق القرآن: أن الله أنبت لها ذلك الرطب على سبيل خرق العادة ،وأجرى لها ذلك النهر على سبيل خرق العادة .ولم يكن الرطب والنهر موجودين قبل ذلك ،سواء قلنا إن الجذع كان يابساً أو نخلة غير مثمرة ،إلا أن الله أنبت فيه الثمر وجعله رطباً جنياً .ووجه دلالة السياق على ذلك أن قوله تعالى:{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} يدل على أن عينها إنما تقر في ذلك الوقت بالأمور الخارقة للعادة ؛لأنها هي التي تبين براءتها مما اتهموها به .فوجود هذه الخوارق من تفجير النهر ،وإنبات الرطب ،وكلام المولود تطمئن إليه نفسها وتزول به عنها الربية ،وبذلك يكون قرة عين لها ؛لأن مجرد الأكل والشرب مع بقاء التهمة التي تمنت بسببها أن تكون قد ماتت من قبل وكانت نسياً منسياً لم يكن قرة لعينها في ذلك الوقت كما هو ظاهر .وخرق الله لها العادة بتفجير الماء ،وإنبات الرطب ،وكلام المولود لا غرابة فيه .وقد نص الله جل وعلا في «آل عمران » على خرقه لها العادة في قوله{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .قال العلماء: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ،وفاكهة الشتاء في الصيف .وإجراء النهر وإنبات الرطب ليس أغرب من هذا المذكور في سورة «آل عمران » .
مسألة
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الآيةأن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمر مأمور به شرعا وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا .وهذا أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة .أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا أمر مأمور به شرعا لا ينافي التوكل على الله بحال ؛لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالاً لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه .فهو متوكل على الله ،عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر .ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف .
ومن أصرح الأدلة في ذلكقوله تعالى:{قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ 19} الآية .فطبيعة الإحراق في النار معنى واحد لا يتجَّزأ إلى معان مختلفة ،ومع هذا أحرقت الحطب فصار رماداً من حرها في الوقت الذي هي كائنة برداً وسلاماً على إبراهيم .فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض ،وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ،وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا .
ومن أوضح الأدلة في ذلكأنه ربما جعل الشيء سبباً لشيء آخر مع أنه مناف له: كجعله ضرب ميت بني إسرائيل ببعض من بقرة مذبوحة سبباً لحياته ،وضربه بقطعة ميتة من بقرة ميتة مناف لحياته .إذ لا تكسب الحياة من ضرب بميت ؟وذلك يوضح أنه جل وعلا يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ،ولا يقع تأثير البتة إلا بمشيئته جل وعلا .
ومما يوضح أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على اللهقوله تعالى عن يعقوب:{وَقَالَ يا بَنِيَّّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} أمرهم في هذا الكلام بتعاطي السبب ،وتسبب في ذلك بالأمر به ،لأنه يخاف عليهم أن تصيبهم الناس بالعين لأنهم أحد عشر رجلاً أبناء رجل واحد ،وهم أهل جمال وكمال وبسطة في الأجسام .فدخولهم من باب واحد مظنة لأن تصيبهم العين فأمرهم بالتفرق والدخول من أبواب متفرقة تعاطياً للسبب في السلامة من إصابة العين ؛كما قال غير واحد من علماء السلف .ومع هذا التسبب فقد قال الله عنه:{وَقَالَ يا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيء إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ 67} .فانظر كيف جمع بين التسبب في قوله:{لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} وبين التوكل على الله في قوله:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ 67} وهذا أمر معلوم لا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته .والله جل وعلا قادر على أن يسقط لها الرطب من غير هز الجذع ،ولكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع .وقد قال بعضهم في ذلك:
ألم تر أن الله قال لمريم *** وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه *** جنته ولكن كل شيء له سبب
وقد أخذ بعض العلماء من هذه الآيةأن خير ما تطعمه النفساء الرطب ،قالوا: لو كان شيء أحسن للنفساء من الرطب لأطعمه الله مريم وقت نفاسها بعيسى ،قاله الربيع بن خيثم وغيره .والباء في قوله{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} مزيدة للتوكيد ،لأن فعل الهز يتعدى بنفسه ،وزيادة حرف الباء للتوكيد قبل مفعول الفعل المتعدي بنفسه كثيرة في القرآن وفي كلام العرب ،فمنه في القرآن قوله هنا{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} لأن المتبادر من اللغة أن الأصل: وهزي إليك جذع النخلة ،وقوله تعالى:{وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ،وقوله:{وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} .وقوله:{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ 5 بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ 6} الآية ،وقوله:{تَنبُتُ بِالدُّهْنِ} على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم التاء وكسر الباء مضارع أنبت الرباعي ،لأن الرباعي الذي هو أنبت ينبت بضم الياء المثناة وكسر الباء الموحدة يتعدى بنفسه دون الحرف ،فالباء مزيدة للتوكيد كما رأيت في الآيات المذكورة .ونظير ذلك من كلام العرب قول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
إذ يسقون بالدقيق وكانوا *** قبل لا يأكلون خبزا فطيرا
لأن الأصل يسقون الدقيق فزيدت الباء للتوكيد .وقول الراعي:
هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المعاجر لا يقرأن بالسور
فالأصل: لا يقرأن السور ،فزيدت الباء لما ذكر .وقول يعلى الأحول اليشكري أو غيره:
بواد يمان ينبت الشث صدره *** وأسفله بالمرخ والشبهان
فالأصل: وأسفله المارح ؛أي وينبت أسفله المرخ ،فزيدت الباء لما ذكر وقول الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا *** ملء المراجل والصريح الأجودا
فالأصل ضمنت رزق عيالنا .وقول الراجز:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي نرجو الفرج .وقول امرئ القيس:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت *** هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
فالأصل: هصرت غصنا ؛لأن هصر تتعدى بنفسها .وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب .
وفي قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: «تساقط » تسع قراءات ،ثلاث منها سبعية .وست شاذة .أما الثلاث السبعية فقد قرأه حمزة وحده من السبعة «تساقط » بفتح التاء وتخفيف السين وفتح القاف ،وأصله: تتساقط ؛فحذفت إحدى التاءين .وعلى هذه القراءة فقوله «رطباً » تمييز محول عن الفاعل .وقرأه حفص وحده عن عاصم «تساقط » بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين ،ومضارع ساقطت تساقط .وعلى هذه القراءة فقوله «رطباً » مفعول به الفعل الذي هو «تساقط » هي أي النخلة رطباً .وقرأه بقية السبعة «تساقط » بفتح التاء والقاف وتشديد السين ،أصله: تتساقط ؛فأدغمت إحدى التاءين في السين .وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله «رطباً » تمييز محول عن الفاعل كإعرابه على قراءة حمزةوغير هذا من القراءات شاذ .
وقوله في هذه الآية الكريمة:{رُطَباً جَنِيّاً 25} الجني: هو ما طلب وصلح لأن يجنى فيؤكل .وعن أبي عمرو بن العلاء: أن الجني هو الذي لم يجف ولم ييبس ،ولم يبعد عن يدي متناوله .