قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا} .
قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير «أولم ير » بواو بعد الهمزة: وقرأه ابن كثير «ألم ير الذين كفروا » بدون واو ،وكذلك هو في مصحف مكة .والاستفهام لتوبيخ الكفار وتقريعهم ،حيث يشاهدون غرائب صنع الله وعجائبه ،ومع هذا يعبدون من دونه ما لا ينفع من عَبَده ،ولا يضر من عَصَاه ،ولا يقدر على شيء .
وقوله{كَانَتَا} التثنية باعتبار النوعين اللذَين هما نوع السماء ،ونوع الأرض .كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَن تَزُولاَ} ونظيره قول عمر بن شبيم:
ألم يحزنك أن جبال قيس *** وتغلب قد تباينتا انقطاعا
والرتق مصدر رَتَقه رتْقاً: إذا سده .ومنه الرتقاء .وهي التي انسد فرجها ،ولكن المصدر وصف به هنا ولذا أفرده ولم يقل كانتا رتقين .والفتق: الفصل بين الشيئين المتَّصلين .فهو ضد الرتق .ومنه قول الشاعر:
يهون عليهم إذا يغضبو *** ن سخط العداة وإرغامها
ورتق الفتوق وفتق الرتو *** ق ونقض الأمور وإبرامها
واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالرتق والفتق في هذه الآية على خمسة أقوال ،بعضها في غاية السقوط ،وواحد منها تدل له قرائن من القرآن العظيم:
الأولأن معنى{رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} أي كانت السماوات والأرض متلاصقة بعضها مع بعض ،ففتقها الله وفصل بين السماوات والأرض ،فرفع السماء إلى مكانها ،وأقر الأرض في مكانها ،وفصل بينهما بالهواء الذي بينهما كما ترى .
القول الثانيأن السماوات السبع كانت رتقاً .أي متلاصقة بعضها ببعض ،ففتقها الله وجعلها سبع سماوات ،كل اثنتين منها بينهما فصل ،والأرضون كذلك كانت رتقاً ففتقها ،وجعلها سبعاً بعضها منفصل عن بعض .
القول الثالثأن معنى{رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} أن السماء كانت لا ينزل منها مطر ،والأرض كانت لا ينبت فيها نبات ،ففتق الله السماء بالمطر ،والأرض بالنبات .
القول الرابع{رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} أي في ظلمة لا يرى من شدتها شيء ففتقهما الله بالنور .وهذا القول في الحقيقة يرجع إلى القول الأول ،والثاني .
القول الخامسوهو أبعدها لظهور سقوطه .أن الرتق يراد به العدم .والفتق يراد به الإيجاد .أي كانتا عدماً فأوجدناهما .وهذا القول كما ترى .
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه الآية ،فاعلم أن القول الثالث منها وهو كونهما كانتا رتقاً بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر ،والأرض لا تنبت شيئاً ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنباتقد دلت عليه قرائن من كتاب الله تعالى .
الأولىأن قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ} يدل على أنهم رأوا ذلك .لأن الأظهر في رأى أنها بصرية ،والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر ،والأرض ميتة هامدة لا نبات فيها .فيشاهدون بأبصارهم إنزال الله المطر ،وإنباته به أنواع النبات .
القرينة الثانيةأنه أتبع ذلك بقوله:{وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} .والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله ؛أي وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء ،وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض كل شيء حي .
القرينة الثالثةأن هذا المعنى جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ 11 والأرض ذَاتِ الصَّدْعِ 12} لأن المراد بالرَّجْع نزول المطر منها تارة بعد أخرى ،والمراد بالصَّدْع: انشقاق الأرض عن النبات .وكقوله تعالى:{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ 24 أنا صببنا الماء صبا 25 ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً 26} الآية .واختار هذا القول ابن جرير وابن عطية وغيرهما للقرائن التي ذكرنا .ويؤيد ذلك كثرة ورود الاستدلال بإنزال المطر ،وإنبات النبات في القرآن العظيم على كمال قدرة الله تعالى ،وعظم منته على خلقه ،وقدرته على البعث .والذين قالوا: إن المراد بالرتق والفتق أنهما كانتا متلاصقتين ففتقهما الله وفصل بعضهما عن بعض قالوا في قوله{أَوَ لَمْ يَرَ} أنها من رأي العلمية لا البصرية ،وقالوا: وجه تقريرهم بذلك أنه جاء في القرآن ،وما جاء في القرآن فهو أمر قطعي لا سبيل للشك فيه .والعلم عند الله تعالى .
وأقرب الأقوال في ذلكهو ما ذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه ،وقد قال فيه الفخر الرازي في تفسيره: ورجَّحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك:{وجعلنا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيء حَيٍّ أَفَلاَ} وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ،ولا يكون كذلك إلاَّ إذا كان المراد ما ذكرنا .
فإن قيل: هذا الوجه مرجوح .لأن المطر لا ينزل من السماوات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا .
قلنا: إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء .كما يقال ثوب أخلاق ،وبرمة أعشار ا ه منه .قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيء حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ 30} .
الظاهر أن «جَعل » هنا بمعنى خَلَق .لأنها متعدية لمفعول واحد .ويدل لذلك قوله تعالى في سورة «النور »:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّاءٍ} .
واختلف العلماء في معنى خلق كل شيء من الماء .قال بعض العلماء: الماء الذي خلق منه كل شيء هو النطفة .لأن الله خلق جميع الحيوانات التي تولد عن طريق التناسل من النطف ،وعلى هذا فهو من العام المخصوص .
وقال بعض العلماء: هو الماء المعروف ،لأن الحيوانات إما مخلوقة منه مباشرة كبعض الحيوانات التي تتخلق من الماء .وإما غير مباشرة لأن النطف من الأغذية ،والأغذية كلَّها ناشئة عن الماء ،وذلك في الحبوب والثمار ونحوها ظاهر ،وكذلك هو في اللحوم والألبان والأسمان ونحوها: لأنه كله ناشئ بسبب الماء .
وقال بعض أهل العلم: معنى خَلْقه كل حيوان من ماء: أنه كأنما خلقه من الماء لفرط احتياجه إليه ،وقلة صبره عنه .كقوله:{خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} إلى غير ذلك من الأقوال .وقد قدمنا المعاني الأربعة التي تأتي لها لفظة «جعل » وما جاء منها في القرآن وما لم يجئ فيه في سورة «النحل » .
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: لقائل أن يقول: كيف قال وخلقنا من الماء كل حيوان ؟وقد قال{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ 27} وجاء في الأخبار: أن الله تعالى خلق الملائكة من النور ،وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} ،وقال في حق آدم{خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} .
والجواب: اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة ،فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود .وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى وعليهم السلام ،لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك ا ه منه .
ثم قال الرازي أيضاً: اختلف المفسِّرون ،فقال بعضهم: المراد من قوله{كُلَّ شَيء حَيٍّ} الحيوان فقط .وقال آخرون: بل يدخل فيه النبات والشجر ،لأنه من الماء صار نامياً ،وصار فيه الرطوبة والخضرة ،والنور والثمر .وهذا القول أليق بالمعنى المقصود ،كأنه تعالى قال: ففتقنا السماء لإنزال المطر ،وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حياً .حجة القول الأول: أن النبات لا يسمى حياً .قلنا: لا نسلم ،والدليل عليه قوله تعالى{كَيْفَ يُحْيي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} انتهى منه أيضاً .