هذا شروع في آياته الكونية ،الدالة على وحدته في ألوهيته ،التي عمى عنها المشركون ،فلم يروها رؤية اعتبار وتدبر .ومعنى قوله:{ كَانَتَا رَتْقًا} أي لا تمطر ولا تنبت{ فَفَتَقْنَاهُمَا} أي بالمطر والنبات .
فالفتق والرتق استعارة .ونظيره قوله تعالى:{ والسماء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع} و{ الرجع} لغة هو الماء{ الصدع} هو النبات لأنه يصدع الأرض أي يشقها .وقوله تعالى:{ فلينظر الإنسان إلى طعامه} أي كيف انفردنا في إحداثه وتهيئته ليقيم بنيته:{ أنا صببنا الماء صبا} أي من المزن بعد أن لم يكن{ ثم شققنا الأرض شقا} أي ثم بعد أن كانت رتقا متماسكة الأجزاء ،شققناها شقا مرئيا مشهودا ،كما تراه في الأرض بعد الري .أو شقا بالنبات .
وقال أبو مسلم الأصفهاني:يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله تعالى:{ فاطر السماوات والأرض} وكقوله:{ قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن} فأخبر عن الإيجاد بلفظ ( الفتق ) وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ ( الرتق ) .
قال الرازي:وتحقيقه أن العدم نفي محض .فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة .بل كأنه أمر واحد متصل متشابه .فإذا وجدت الحقائق ،فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها عن بعض ،وينفصل بعضها عن بعض .فهذا الطريق حسن .جعل ( الرتق ) مجازا عن العدم و ( الفتق ) عن الوجود .انتهى .
وقال بعض علماء الفلك:معنى قوله تعالى:{ كَانَتَا رَتْقًا} أي شيئا واحدا .ومعنى{ فَفَتَقْنَاهُمَا} فصلنا بعضهما عن بعض .
قال:فتدل الآية على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه .أي أنها إحدى هذه السيارات .وهي مثلها في المادة وكيفية الخلق وكونها تسير حول الشمس وتستمد النور والحرارة منها .
وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى .وكونها كروية الشكل .فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه ،وكلها مخلوقة من مادة واحدة ،وهي مادة الشمس .وعلى طريقة واحدة .اه كلامه .
وقد يرجح الوجه الأول في تفسير الآية لقوله تعالى بعده:{ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فإن ذلك ما يبين أن لسابقه تعلقا بالماء .وعلى هذا فالرؤية في قوله تعالى:{ أو لم ير} بصرية .وعلى قول أبي مسلم وما بعده ،علمية .على حد قوله تعالى لنبيه صلوات الله عليه:{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} مع أنه لم يشاهد الحادثة ،بل ولد بعدها .وإنما تيقنها بالأخبار الصادقة .وكذلك ما هنا من الفتق والرتق ،بمعنييه الأخيرين ،مما أخبر به الحق تعالى على لسان من قامت الحجة على صدقه وعصمته .فكان مما يسهل عليهم تصديقه فعلمه .
ومعنى قوله تعالى:{ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا يحيا دونه .فيدخل فيه النبات والشجر .لأنه من الماء صار ناميا .وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر .وإسناد الحياة إلى ظهور النبات معروف في آيات شتى .كقوله تعالى:ويحيي الأرض بعد موتها} وخص بعضهم الشيء بالحيوان ،لآية{ والله خلق كل دابة من ماء} ولا ضرورة إليه .بل العموم أدل على القدرة وأعظم في العبرة ،وأبلغ في الخطاب ،وألطف في المعنى .
وقوله تعالى:{ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} ،إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده ،مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات الظاهرة .