التّفسير
علامات أُخرى للهِ في عالم الوجود:
تعقيباً على البحوث السابقة حول عقائد المشركين الخرافية ،والأدلّة التي ذكرت على التوحيد ،فإنّ في هذه الآيات سلسلة من براهين الله في عالم الوجود ،وتدبيره المنظّم ،وتأكيداً على هذه البحوث تقول أوّلا: ( أو لم ير الذين كفروا أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كلّ شيء حيأفلايؤمنون ) .
لقد ذكر المفسّرون أقوالا كثيرة فيما هو المراد من «الرتق » و «الفتق » المذكورين هنا في شأن السماوات والأرض ؟ويبدو أنّ الأقرب من بينها ثلاثة تفاسير ،ويحتمل أن تكون جميعاً داخلة في مفهوم الآية{[2500]}:
1إنّ رتق السّماء والأرض إشارة إلى بداية الخلقة ،حيث يرى العلماء أنّ كلّ هذا العالم كان كتلة واحدة عظيمة من البخار المحترق ،وتجزّأ تدريجيّا نتيجة الإنفجارات الداخلية والحركة ،فتولّدت الكواكب والنجوم ،ومن جملتها المنظومة الشمسية والكرة الأرضية ،ولا يزال العالم في توسّع دائب .
2المراد من الرتق هو كون مواد العالم متّحدة ،بحيث تداخلت فيما بينها وكانت تبدو وكأنّها مادّة واحدة ،إلاّ أنّها انفصلت عن بعضها بمرور الزمان ،فأوجدت تركيبات جديدة ،وظهرت أنواع مختلفة من النباتات والحيوانات والموجودات الأخرى في السّماء والأرض ،موجودات كلّ منها نظام خاص وآثار وخواص تختص بها ،وكلّ منها آية على عظمة الله وعلمه وقدرته غير المتناهية{[2501]} .
3إنّ المراد من رتق السّماء هو أنّها لم تكن تمطر في البداية ،والمراد من رتق الأرض أنّها لم تكن تنبت النبات في ذلك الزمان ،إلاّ أنّ الله سبحانه فتق الاثنين ،فأنزل من السّماء المطر ،وأخرج من الأرض أنواع النباتات .والرّوايات المتعدّدة الواردة عن طرق أهل البيت ( عليهم السلام ) تشير إلى المعنى الأخير ،وبعضها يشير إلى التّفسير الأوّل{[2502]} .
لا شكّ أنّ التّفسير الأخير شيء يمكن رؤيته بالعين ،وكيف أنّ المطر ينزل من السّماء ،وكيف تنفتق الأرض وتنمو النباتات ،وهو يناسب تماماً قوله تعالى: ( أو لم ير الذين كفروا ) وكذلك ينسجم وقوله تعالى: ( وجعلنا من الماء كلّ شيء حي ) .
إلاّ أنّ التّفسيرين الأوّل والثّاني أيضاً لا يخالفان المعنى الواسع لهذه الآية ،لأنّ الرؤية تأتي أحياناً بمعنى العلم .صحيح أنّ هذا العلم والوعي ليس للجميع ،بل إنّ العلماء وحدهم الذين يستطيعون أن يكتسبوا العلوم حول ماضي الأرض والسّماء ،واتصالهما ثمّ انفصالهما ،إلاّ أنّنا نعلم أنّ القرآن ليس كتاباً مختصاً بعصر وزمان معيّن ،بل هو مرشد ودليل للبشر في كلّ القرون والأعصار .
من هذا يظهر أنّ له محتوى عميقاً يستفيد منه كلّ قوم وفي كلّ زمان ،ولهذا نعتقد أنّه لا مانع من أن تجتمع للآية التفاسير الثلاثة ،فكلّ في محلّه كامل وصحيح وقد قلنا مراراً: إنّ استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى ليس جائزاً فحسب ،بل قد يكون أحياناً دليلا على كمال الفصاحة ،وإنّ ما نقرؤه في الرّوايات من أنّ للقرآن بطوناً مختلفة يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى .
وأمّا فيما يتعلّق بإيجاد كلّ الكائنات الحيّة من الماء الذي أشير إليه في ذيل الآية ،فهناك تفسيران مشهوران:
أحدهما: إنّ حياة كلّ الكائنات الحيّةسواء كانت النباتات أم الحيواناتترتبط بالماء ،هذا الماء الذي كان مبدؤهالمطر الذي نزل من السّماء .
والآخر: إنّ الماء هنا إشارة إلى النطفة التي تتولّد منها الكائنات الحيّة عادةً .
وما يلفت النظر أنّ علماء عصرنا الحديث يعتقدون أنّ أوّل إنبثاقة للحياة وجدت في أعماق البحار ،ولذلك يرون أنّ بداية الحياة من الماء .وإذا كان القرآن يعتبر خلق الإنسان من التراب ،فيجب أن لا ننسى أنّ المراد من التراب هو الطين المركّب من الماء والتراب .
والجدير بالذكر أيضاً أنّه طبقاً لتحقيقات العلماء ،فإنّ الماء يشكّل الجزء الأكبر من بدن الإنسان وكثير من الحيوانات ،وهو في حدود 70% !
وما يورده البعض من أنّ خلق الملائكة والجنّ ليس من الماء ،مع أنّها كائنات حيّة ،فجوابه واضح ،لأنّ المراد هو الموجودات الحيّة المحسوسة بالنسبة لنا .
وفي حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّ رجلا سأله: ما طعم الماء ؟فقال الإمام أوّلا: «سل تفقّهاً ولا تسأل تعنّتاً » ثمّ أضاف: «طعم الماء طعم الحياة !قال الله سبحانه: ( وجعلنا من الماء كلّ شيء حي ) .
وخاصةً عندما يصل الإنسان إلى الماء السائغ بعد عطش طويل في الصيف ،وفي ذلك الهواء المحرق ،فإنّه حينما تدخل أوّل جرعة ماء إلى جوفه يشعر أنّ الروح قد دبّت في بدنه ،وفي الواقع أراد الإمام أن يجسّد الارتباط والعلاقة بين الحياة والماء بهذا التعبير الجميل .